قبل ثلاثة أشهر، كاد الأوكسيجن يُقطع، حرفياً، عن البلاد. ففي حزيران الماضي، هدّدت شركة «سول» (soal)، المختصّة باستيراد الأوكسيجن وغاز البنج، بالامتناع عن تسليم هذه المواد الحيوية إلى المُستشفيات بعدما صنّف مصرف لبنان الغاز المستخدم في البنج كـ«غاز صناعي» لا يشمله الدعم الذي يوفّره المصرف للمستلزمات الطبية، قبل أن يتراجع عن قراره تحت الضغط.
قبلها بأشهر، كانت المصارف تمارس التحايل مع مُستوردي المستلزمات الطبية لتفاوضهم على البضائع الواجب دعمها (من خلال تأمين 85% من قيمة الفاتورة على أساس سعر الصرف الرسمي على أن يؤمن المُستوردون الـ15% المتبقية)، وذلك بعدما ترك مصرف لبنان لها مساحة لـ«الاجتهاد» في ما ينبغي دعمه أو لا. مذاك، يخضع تسعير هذه المُستلزمات لمزاجية المصرف من جهة، ولـ«حظ» الشركة أو حظوتها من جهة أخرى، فيما كانت كلفة البضائع ترتفع باطراد، وتُلقى على كاهل المُقيمين.
وبحسب التقديرات، فإن كلفة المُستلزمات والأجهزة الطبية تشكّل نحو 40% من الفاتورة الاستشفائية، يتكبّدها المرضى منذ أكثر من سبعة أشهر. في «حسبة» المُستشفيات الخاصة، فإنّ نسبة الـ15% التي يجب على التجار تأمينها وفق سعر السوق، والتي يتقاسمها التاجر والمُستشفى/ أو المريض، فإنّ دولار المُستشفيات يُعادل نحو أربعة آلاف ليرة، وهي «تسعيرة» معتمدة بين المُستشفيات منذ أشهر، أي قبل أن تُعلن كـ«معلومة جديدة»، مصدرها قرار صادر عن إدارة مُستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.
وعليه، فإنّ «استنفار» المعنيين الذي رافق الإعلان عن بدء اعتماد المُستشفيات تسعيرة جديدة بدا مُستغرباً لأن الأمر ينبغي أن يكون معلوماً لهم منذ أشهر. هكذا، أصرّ وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن، أمس، على «التطمين» بأن لا زيادة في تعرفة المُستشفيات، فيما هذه الزيادة سارية فعلياً منذ أشهر. وجوهر النقاش لم يعد يتعلّق بالوعود بعدم إقرار اعتماد دولار الأربعة آلاف ليرة رسمياً، لأن هذا يصعب تطبيقه في ظل الأزمة التي تتفاقم يومياً مع الاعلان عن نفاد الدولارات ورفع الدعم قريباً، بل بضرورة البحث في آليات لتجنيب المواطن دفع الكلفة الجديدة، وذلك عبر دعم الجهات الضامنة. فهل هذا ممكن؟
وفق المدير العام للضمان الاجتماعي محمد كركي، فإن أي إقرار باعتماد تسعيرة جديدة لا يُمكن أن يستقيم من دون إيجاد مصادر للتمويل، «وهو أمر غير وارد بالنسبة إلى الضمان. فقد انخفضت إيراداتنا من القطاع الخاص بنسبة 41%، فيما تمتنع الدولة عن تسديد مستحقاتها منذ ست سنوات». لذلك، يؤكد ««أننا غير قادرين على الاعتراف بالتسعيرة الجديدة، لأن اعتمادها يعني ضرب المبالغ التي ننفقها بنسبة 2.5. ما يعني أن التقديمات الصحية التي ندفعها وتقدر بـ1200 مليار ليرة سترتفع الى 2500 مليار ليرة. والأمر نفسه ينطبق على الدواء الذي سترتفع فاتورته على الضمان من نحو 500 مليار ليرة سنوياً حالياً إلى ثلاثة آلاف مليار ليرة في حال رفع الدعم».
أما الأهم في حال اعتمدت تعرفة الأربعة آلاف ليرة رسمياً، فهو أنها ستنعكس على أجراء الضمان الاجتماعي الذين «يدفعون حالياً نحو 10% من إجمالي الفاتورة، أي إن فارق الضمان الذي يدفعه الأجير اليوم سيرتفع من مليون ليرة مثلاً إلى ثلاثة ملايين». كل هذا فيما لا يتقاضى كثيرون من هؤلاء كامل رواتبهم، «ما يعني أننا مقبلون على كارثة صحية واجتماعية. وشدّد كركي على أن هذه الاجراءات «تعد مساً بالاستقرار الصحي في البلاد». وفيما أبدى كركي «تفهّماً» لموقف المستشفيات الخاصة، أكد ضرورة تحمّل أصحاب المستشفيات الأزمة والتكاتف، «ذلك أن الارباح التي راكمها هؤلاء خلال السنوات الطويلة الماضية لم تكن قليلة ايضاً»، مُحذّراً من زيادة التعرفة من دون تنسيق شامل.

ماذا عن وزارة الصحة المنشغلة حالياً بمواجهة تداعيات وباء كورونا، وهل ستكون قادرة على تمويل الزيادات الناجمة عن الاقرار بالتسعيرة الجديدة رسمياً؟ «بالطبع لا، فالوزارة لا تزال تعتمد على أموال القروض والهبات لتلبي تكاليف الفحوصات وتجهيز المُستشفيات الحكومية وغيرها». أما شركات التأمين الخاصة فهي لم تنتظر، أساساً، قراراً رسمياً لترفع تسعيرتها سابقاً، ولن تتوانى حكماً عن إعادة رفعها مع اشتداد الأزمة.
حتى الآن، يجزم المعنيون بأنه طالما أن مصرف لبنان لا يزال يدعم الاستيراد، فإنه لا تعرفة جديدة ستُقر، أو على الأقل لا تعرفة جديدة قبل نهاية السنة، وقبل السيطرة على سعر الصرف. وهو أمر شدد عليه رئيس نقابة المُستشفيات الخاصة سليمان هارون عندما قال إن قرار اعتماد الـ 3950 ليرة الذي اتخذه أحد المُستشفيات الجامعية في بيروت بسبب الضائقة المالية «لا يُطبّق على التعرفات الرسمية مع الجهات الضامنة»، فيما قال حسن عبر حسابه على «تويتر»: «طول ما هو الدولار الرسمي محدد من مصرف لبنان والدعم مستمر، زيادة تعرفة المستشفيات ورفع سعر الدواء مش مطروح، وزارة الصحة تعمل بموجب القانون اللبناني، وعلى الكل المشاركة بالحل مش بالعكس، بكفي مزايدات على حساب أعصاب الناس ووجعها».
وإذا كانت ضمانة عدم الاعتراف بالتسعيرة الجديدة ترتبط بمدى تزويد مصرف لبنان بالدعم، فإن هارون يطلب أن لا يكون الدعم بالكلام فقط. يبقى أن ما يحصل ليس إلا انعكاساً لتفاقم الأزمة الاقتصادية التي بدأت تدكّ الاستقرار الصحي وتضع حياة اللبنانيين في خطر. وما حديث هارون عن موت الناس في بيوتهم وليس في المستشفيات في حال رفع الدعم، إلا دليل على الكارثة الصحية والاجتماعية التي نحن مقبلون عليها.