لم يكن بوسع قيادة العدوّ، السياسية والعسكرية والاستخبارية، «بلع» الصفعة المدوّية التي تلقّتها من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، فعمدت الى دراسة خياراتها المضادة بهدف احتواء تداعيات عملية الإحباط التي نفذها السيد نصر الله في الساحتين المحلية اللبنانية والإسرائيلية الداخلية. ونتيجة فشل المؤسستين السياسية والإعلامية، وتقويض صدقيّة رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، تم إيكال المهمة الى جيش الاحتلال الذي احتاج الى نحو 70 ساعة كي يبلور وينشر فيديو مكشوف الخلفية والأهداف التعويضية. مع ذلك، بدت خطوة الجيش أقرب الى الإقرار الضمني بعدم صحة ما روَّج له نتنياهو. لكن بدا أيضاً أن محاولة الجيش فشلت في تعديل الصورة التي تبلورت في أعقاب رد السيد نصر الله الذي أتى بعد أقل من ساعة من إعلان نتنياهو عن مخزن صواريخ مزعوم لحزب الله في منطقة الجناح (الضاحية الجنوبية لبيروت)، ولم يحتج حزب الله إلى أكثر من ساعة لتنفيذه. ويمكن افتراض سيناريو أن خطوة الجيش أتت نتيجة ضغط مارسته القيادة السياسية، ولذلك كان باهتاً ومحدود التأثير. وإذا ما صح الاستدلال به، فهو مؤشر إضافي على انتصار حزب الله في معركة الوعي، وتعميق الهزيمة المعنوية والسياسية والإعلامية التي مني بها العدو في هذه الجولة من الصراع المفتوح والمتواصل، الذي لم ولن يفوّت أي وسيلة أو فرصة لاستهداف وعي ومشاعر جمهور المقاومة.
الصفعة التي تلقاها كيان العدو بكل مؤسساته السياسية والأمنية والإعلامية، تمثلت بنجاح حزب الله في إحباط أهداف الحملة الدعائية التي تجنّد لها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو واستخدم فيها منبر الأمم المتحدة، وأيضاً في قلب المعادلة التي حاول الأخير إرساءها بعدما بدا مُروِّجاً لمعلومات كاذبة عن وجود مخزن صواريخ لحزب الله يهدد سكان منطقة الجناح.
إصرار العدو على مواصلة المعركة الإعلامية، ينبع من حقيقة أن ما أعلنه نتنياهو لم يكن مجرد موقف في مناسبة عالمية يجدر استغلالها، بل هو ترجمة لخطة أوسع ينتهجها كيان العدو ضد حزب الله، وتحديداً في مواجهة قدراته العسكرية والصاروخية النوعية. وبحسب صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، فإن «ما تقوم إسرائيل به، سواء من قبل نتنياهو أو من قبل الجيش الإسرائيلي – هو جزء من الحملة الدعائية التي من ضمن أهدافها تشويه صورة حزب الله وتقديمه كمن يعرّض حياة المدنيين في لبنان للخطر لأنه يخزّن المواد المتفجرة تحت الأحياء السكنية المكتظّة بالسكان».
أما بخصوص خلفية اللجوء الى هذا الخيار، وموقعه من استراتيجية العدوّ العامة في مواجهة حزب الله، فأضافت الصحيفة إن «هذا النوع من الأعمال تقوم به إسرائيل لإدراكها أن العمليات الهجومية قد تؤدي الى تصعيد في المنطقة».
من هنا، يتضح أن الحملة الدعائية التي تقوم بها «إسرائيل»، وتتناغم معها قوى محلية وإقليمية ودولية، هي من ضمن عدة مسارات تسعى الى تحريض الشعب اللبناني عموماً، وجمهور المقاومة خصوصاً على حزب الله، على أمل أن يساهم ذلك في تقويض قاعدته الشعبية ويفاقم الضغوط عليه من أجل إجباره على تقديم تنازلات تتلاءم مع أولويات ومصالح كيان العدو.
انطلاقاً ممّا تقدم، يصبح مفهوماً أنّ ما جرى لم يكن المرة الأولى التي يحاول فيها العدو تنفيذ مثل هذا المخطط. فقد سبق أن أعلن نتنياهو ومن على منبر الأمم المتحدة أيضاً، عن أمور مشابهة، وسبق للجيش الإسرائيلي أيضاً أن أعلن عن خرائط مزعومة في الاتجاه نفسه. واستناداً إلى نفس المنطق والرهان، سيبقى هذا المسار متواصلاً في مراحل لاحقة.
تندرج كل هذه الخطوات، ضمن إطار ما يُعرف بـ«معركة الوعي»، التي باتت تحتل جزءاً أساسياً في استراتيجية «إسرائيل» ضد أعدائها. وبحسب دراسة صادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، فإن «استراتيجية الجيش التي نشرت عام 2018، سعت إلى إنتاج «قدرة تأثير على بلورة الوعي» في صفوف أعدائها والقوى الشعبية والسياسية للتأثير في مواقفها وخياراتها. ولهذه الغاية عمدت الى تطوير أدوات للتأثير الواسع والمركّز». وتلفت الدراسة الى أن «معركة الوعي» تحتل حيزاً أساسياً باعتبارها «جهداً مستقلاً ومرافقاً ومُكمّلاً لمختلف الجهود الأخرى»، الهجومية والدفاعية واللوجستية، بحسب ما تنص عليه استراتيجية الجيش. لكن اللافت أيضاً أن البند المتعلق بـ«معركة الوعي»، تم إدراجه في «فصل استخدام القوة» (في استراتيجية جيش الاحتلال) إلى جانب المناورة والنيران المتعددة الأبعاد، وأيضاً كان لها مكانتها في ما يتعلق بالقدرات الناعمة على مستوى (حرب) المعلومات والوعي والشرعية والقانون.
وبالنسبة إلى الأهداف المباشرة لهذه الاستراتيجية (معركة الوعي) حددت الدراسة (معهد أبحاث الأمن القومي) أن هدفها تغيير تصورات أعداء إسرائيل عبر التوجه إلى جماهير تم اختيارها، سواء كان جمهوراً محلياً أو المجتمع الدولي، على أمل أن يساهم ذلك في تغيير مواقف وسلوك الجمهور المستهدف ضد العدو (حزب الله) الذي يتم التحريض عليه. وتتفاوت النشاطات التي تندرج ضمن إطار هذه المعركة بين نشاطات سرية مطلقاً، وأخرى علنية مطلقاً، وما بينهما من نشاطات يتداخل فيها السري بالعلني.
مع ذلك، يبقى لـ«معركة الوعي» التي يشنّها كيان العدو، ومعه كل القوى الدولية والإقليمية والمحلية ضد حزب الله، خصوصية استثنائية. ففي الحالات التقليدية، يشكل هذا النوع من المعارك عاملاً مساعداً ومكملاً للجهود العسكرية، كما تمت الإشارة أعلاه. إلّا أنّها في سياق المواجهة مع حزب الله ارتقت بالنسبة إلى العدو الى أن تصبح خياراً موازياً للمواجهة العسكرية. وفي هذه المرحلة، ارتقت أيضاً الى أن تكون خياراً بديلاً منها، ويعود ذلك الى نجاح قوة الردع التي أرساها حزب الله في مواجهة الخيارات العدوانية الإسرائيلية خلال أكثر من 14 عاماً (منذ حرب عام 2006)، في توفير مظلة حماية للبنان وللمقاومة كي تبني وتطور قدراتها الردعية والدفاعية. في المقابل، بدا أن العدو درس خياراته البديلة والمضادة وخلص الى التسليم بحقيقة ضيق خياراته. دفعه ذلك الى تبنّي مروحة من الخيارات البديلة، تشكل أحد مساراتها الأساسية «معركة الوعي» التي تستهدف جمهور المقاومة. وبتقييم إجمالي لما شهدته هذه الساحة من جولات، من الواضح أن حزب الله حقق انتصاراً تمثّل في إحباط مساعي ورهانات العدو في انفضاض جمهور المقاومة عنها، وأظهر فيها هذا الجمهور وعيه لحقيقة موقع ودور المقاومة في حاضره ومستقبله، كما كان لها دور مصيريّ في مواجهة التهديدات المحدقة بلبنان والمنطقة.