الحدث

بايدن بين «البنتاغون» والدبلوماسية

(أ ف ب )

 

الأخبار- عباس بوصفوان

عندما يتعلّق الأمر بالرغبة في التعرّف على المتوقّع، أميركياً، تجاه الخليج والمنطقة العربية، فَمِن الأولى، في رأيي، التركيز على مراقبة رؤى “البنتاغون”، وسياسات أجهزة الاستخبارات وأذرعهما المتعدِّدة، أكثر من التركيز على دفاتر وزارة الخارجية، التي سيظلّ مهمّاً درس توجّهاتها، ولا يصحّ إهمالها.

نقاش مطلوب
أقول ذلك، بالنظر إلى النقاش المحمود والمطلوب، الجاري راهناً، في شأن المتوقّع من الطاقم الجديد، الذي اختاره الرئيس المنتخب، جو بايدن، لإدارة وزارة الخارجية، بقيادة أنتوني بلينكن، سليل “الاستبلشمنت”. تلك نقاشات بدأت منذ أشهر، وقبل اختيار بايدن طاقمه. في المقابل، يكاد يُهمَل، إلّا من شذرات قليلة، الحديث عن رؤى وزارة الدفاع والأجهزة الاستخباراتية، التي أظنّ أنها المسؤول الأساسي عن وضع سياسات واشنطن تجاه الخليج والمنطقة العربية.
وهكذا، بينما تحظى زيارات وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بتغطية إعلامية موسّعة عربياً، تكاد تختفي زيارات وزير الدفاع المُقال، مارك إسبر، من عناوين الصفحات الأولى في وسائل الإعلام العربية.

الموازنات
تُقدّر موازنة وزارة الخارجية الأميركية لعام 2021، بنحو 41 مليار دولار، وتشمل أيضاً “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية”، فيما تبلغ موازنة أجهزة الاستخبارات أكثر من 80 مليار دولار، أي ضعف الموارد المخصّصة للأذرع الدبلوماسية المعلَنة. وشهدت “الخارجية” تقليصات ملحوظة، إبان عهد الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، في مقابل زيادة موازنة وزارة الدفاع، التي بلغت، في العام الجاري، قرابة 738 مليار دولار.
وإذا اعتبرنا الموازنة أهمّ خطة أو برنامج عمل للدولة، أيُّ دولة، تعكس رؤاها وأولوياتها وقيمها، يمكن أن نسجّل أن البعد العسكري، وليس الدبلوماسي، هو الطاغي في رؤية أميركا لنفسها وللعالم.

إمبراطورية مترنّحة
تلك الموازنات العسكرية المتضخّمة، والتي تحمل علامات العداء للعالم، تأتي على رغم أن الإمبراطورية الأميركية تواجه تحدّيات حقيقية، تدفعها للانكماش إلى الداخل. انهيار الإمبراطوريات، سواء الرومانية والفارسية القديمة، أو المعاصرة مثل العثمانية، أو البريطانية، التي اضطرّت إلى الانسحاب من درّة تاجها: الهند، وكذلك الإمبراطورية السوفياتية، يعود، في جزء كبير منه، إلى عدم قدرة المالية العامة لهذه الإمبراطوريات على تمويل جيوشها وراء البحار، وفق المختصّين. وهنا، يمكن تفهّم القلق الأميركي الذي خلّفه الاستنزاف الذي تسبّبت به حربا أفغانستان والعراق على الإمبراطورية المترنّحة.

مقاربة واشنطن
يمكن القول إن الرؤية الأميركية للمنطقة تطغى عليها المقاربة الحربية والأمنية تجاه ما تفترضه أميركا منطقة “خطرة” تعج بـ”الإرهاب” الأيديولوجي. وفق ذلك، تتقدّم أولويات واشنطن حماية إسرائيل من “الإرهاب” الفلسطيني واللبناني، الأمر الذي يدفع بمعالجة تزيد من ترسانة الكيان العبري، وتغذّي طواحين الحروب، عوض الدفع بعملية سياسية تنتج دولة فلسطينية مستقلّة. وليس مفاجئاً، إذاً، أن يستند التطبيع القائم إلى مقاربة أمنية.
ولا تنظر أميركا إلى أن حماية تدفّق النفط ممّا تسميه “الإرهاب” المتعدّد الأوجه، تتم عبر تشجيع قيام نظام أمني إقليمي في الخليج، وإنما عبر نشر قواعدها في المنطقة، وتحويل الخليج إلى حاملة طائرات عملاقة. وهكذا، فإن المسألة اليمنيّة، حدث أمني في الأساس، يستدعي تقديم كل المساندة للحرب العدوانية السعودية على صنعاء، ويستحضر التفكير في وضع” أنصار الله” على قائمة “الإرهاب”، بغية حماية الرياض من “الإرهاب الحوثي”، بدل الدفع بعملية سياسية تنتج توافقاً يمنياً وإقليمياً يدفع صنعاء نحو التنمية. تلك المقاربة البائسة لتعقيدات المنطقة، دفعت الدبلوماسيين الأميركيين إلى مؤخرة الصفوف، وحوّلتهم إلى جزء من ترسانة الحرب.

دور وزارة الخارجية
جرت المفاوضات الأميركية مع حركة “طالبان”، والحوارات مع العراقيين، من أجل تسهيل انسحاب القوات الأميركية من كابول وبغداد، بعد الفشل الذريع الذي منيت به السياسات الحربية والاستخباراتية الأميركية، وبعدما قام “البنتاغون” بتدمير ما يمكن تدميره، ووصل إلى طريق مسدود، أو شبه مسدود. هنا، يتدخّل الدبلوماسيون للقيام بعمليات علاقات عامة، وتظهير الفشل أو الهزيمة الأميركية في سياق إنساني. حتى الاتفاق النووي الإيراني، جرى بعدما فشلت المحاولات العسكرية والاستخباراتية والمقاطعة الاقتصادية القصوى في إخضاع إيران.

الخليج مقاطعة لـ «البنتاغون»
يقوم البنتاغون بدور حيوي في الخليج، حيث توجد في قطر قاعدة جوية كبرى، وفي البحرين قاعدة بحرية تضمّ قيادة الأسطول الخامس، وفي الكويت قاعدة برية، وفي الإمارات قاعدة تتميّز ببعدها التجسّسي. السفارات الأميركية ودبلوماسيوها محدودو الدور هناك، مقارنة بالتأثير الطاغي الذي يساهم به الجنرالات في رسم السياسات الأميركية تجاه الخليج. ومن اللافت أن “البنتاغون” كان خصماً لترامب، الذي أيّد حصاراً سعودياً ــــ إماراتياً على قطر في صيف عام 2017، فيما تقوّت الكويت، كما أرى، بـ”البنتاغون”، في مواجهة الضغوط التي مارسها جاريد كوشنر في شأن التطبيع في الصيف الماضي، وهذه مفارقة. فيما ناصر “البنتاغون” الحلّ الأمني في البحرين، خلافاً لإعلانات دبلوماسيّي واشنطن.
في جميع تلك الأمثلة، حيث الأولوية حماية الأساطيل، والاستراتيجية الحربية الأوسع، انتصر “البنتاغون”، وتضاءل دور البيت الأبيض، وليس فقط وزارة الخارجية.

غايات التطبيع
إضافة إلى التحالف ضدّ طهران، وقوى الإسلام السياسي ومؤسسات المجتمع المدني غير المرتبطة بالغرب، يرمي التطبيع، في جزء رئيسي منه، إلى تقوية علاقات الإمارات والسعودية والبحرين مع مجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، فـ”البنتاغون” ليس اللاعب الوحيد، أميركياً.
ويبتغي الجهد القطري من إطلاق حوارات مع “طالبان” و”حماس” وغير ذلك، فتح خطوط اتصال مع مجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية الأميركيين، وعدم وضع البيض كله في سلة “البنتاغون”. ويرجّح أن يتنامى التنافس الخليجي نحو كسب ودّ مراكز القوى المتعدّدة في واشنطن.

تحدي بايدن
إذاً، فإن التحدي الأساسي أمام جو بايدن، في تقديري، هو في قدرته على إعادة الاعتبار إلى الدبلوماسية وتنشيط وزارة الخارجية، عوض الاستمرار في سياسة “اليد الغليظة”، التي اعتادت واشنطن اتباعها طويلاً. هذه الفرضية لا تجد، في الوقت الحالي، أرضية حقيقية لتطبيقها، على رغم حديث ملتبس ومتلكئ، أو موضعي بصيغة أدقّ، نسمعه من بايدن، لكنّه يكفي لإثارة القلق لدى حلفاء واشنطن في الرياض وتل أبيب، الذين اعتادوا من حليفتهم الكبرى اتباع علاجات أمنية وحربية حصراً، ويرفضون الميل المحدود أصلاً لواشنطن في الحوارات والتوافقات، التي تأتي بعد حروب، وليس ابتداء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى