إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تُعبّر عن مواقفها تجاه لبنان بفظاظة كبيرة، فإنّ فرنسا لا يفوتها شيء من ذلك أيضاً، حتى ولو حاولت إكساب تعدّيها على سيادة البلد لبوساً «لَبِقاً»، وادّعت تصرّفها من موقع «الحريصة» على خلاص لبنان. فبعد زيارتين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حدّد خلالهما «أوامره» للمرحلة المقبلة، وصل أول من أمس موفده ليَنهر ويُوبّخ ويحثّ… ويختار أسماء الوزراء في حكومة سعد الحريري. على مدى يومين، التقى مستشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لشؤون الشرق الأدنى، باتريك دوريل، القيادات السياسية الرئيسية. بدأ جولته يوم الخميس، واستكملها أمس بلقاء كلّ من: رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، الرئيس السابق أمين الجميّل، رئيس تيّار المردة سليمان فرنجية، ورئيس القوات اللبنانية سمير جعجع. تقريباً، الأفكار نفسها كرّرها دوريل في معظم لقاءاته: تأكيده ضرورة تأليف حكومة، وذكره وجود عراقيل كبيرة وأنّه يجب تقديم تنازلات. فـ«العقاب» لعدم تأليف حكومة سريعاً سيكون «نفض اليد» الفرنسية، وإلغاء مؤتمر الدعم المُخصّص للبنان، ومنع دخول الأموال (القروض). يعتبر الموفد الفرنسي أنّ كلّ القوى السياسية مسؤولة عن تقديم تنازلات ومسؤولة عن تسهيل التأليف، ولكنّ التركيز كان بشكل خاص على دور جبران باسيل، والإيحاء كما لو أنّه «العقبة الكُبرى» أمام الحلّ. بدا واضحاً لدى بعض من التقوه أنّ «واحداً من أهداف الزيارة هو الاستناد إلى العقوبات الأميركية، لممارسة المزيد من الضغوط على الرئيس ميشال عون وباسيل، لانتزاع تنازلات حكومية منهما».

سمع دوريل «نصيحةً» من حزب الله بأن يقوم بمسعى ليتواصل الحريري مع باسيل (هيثم الموسوي)

لكنّ دوريل سَمع «نصيحةً» من حزب الله خلال لقائه معه، بأن يقوم بمسعى مع رئيس الحكومة المُكلّف، سعد الحريري، حتى يجتمع أو يتواصل الأخير مع باسيل. فلا يُمكن أن يُحمّل رئيس التيار الوطني الحرّ وحيداً مسؤولية العرقلة، في حين أنّ الحريري يتعامل مع الملفّ الحكومي بمنطق «النكايات الشخصية»، ويُريد التنسيق مع الجميع إلا مع باسيل، مُستتراً خلف التنسيق مع رئيس الجمهورية. وبالفعل، قام دوريل بـ«وساطة» بين الحليفين السابقين، تجلّت بمُكالمة هاتفية مُختصرة بين الحريري وباسيل، أثناء اللقاء الذي جمع الموفد الفرنسي مع وفد «التيار». اتصال أجراه دوريل بالحريري، قبل أن يحوّل الهاتف إلى باسيل، هدفه «كسر الجليد»، على ما تصفه المصادر السياسية المُطلعة، مُضيفةً إنّ الفرنسيين «يُريدون تواصلاً بين الحريري ــــ باسيل يُشكّل خرقاً إيجابياً في المشهد». هل هذا يعني إيجابية في تأليف الحكومة؟ «كلّا» تُجيب المصادر، مُضيفةً إنّه «ابتداءً من الليلة (أمس)، سيتدخّل دوريل بالتفاصيل أكثر، لجهة الحقائب والتوزيعات». وتقول إنّ التركيز الفرنسي هو على «حقائب الطاقة والاتصالات والمالية، لكي تكون بيد وزراء غير حزبيين ولا يُنفذون أجندات خاصة، وقد حدّد الفرنسيون الأسماء التي يرتاحون لها». المشكلة هنا لا تقتصر عليهم، بل تتعداهم إلى من يفتح لهم الباب مُرحّباً وطالباً لمشورتهم. الإعلام الفرنسي واكب سياسة الضغوط السياسية لإدارته. فقد نشر موقع «فرانس أنفو» أمس مقالةً، نقل فيها عن «مُقربين» من الإليزيه أنّ ماكرون «أعطى قادة لبنان إنذارين لتأليف حكومة، من دون جدوى. انتهت المهلة ولا يزال الفاسدون وغير الكفوئين في مراكزهم». وتجلّت الفوقية والنفَس التقسيمي للبلد أكثر في حديث «أحد المقربين» من وزير الخارجية، جان إيف لودريان: «تفاقم الوضع منذ انفجار المرفأ، هاجر الأغنياء والمسيحيون، وفي غضون أشهر قليلة لن يبقى سوى الفقراء والإسلاميين». هل يُمكن ماكرون أن يُمارس ضغوطاً أكثر؟ سألت «فرانس أنفو»، ليأتيها جواب أحد المسؤولين بأنّ «المفتاح لدى واشنطن».
المزيد من الضغوط… والعقوبات. هذا هو اختصار الموقف الأميركي ــــ الأوروبي تجاه لبنان، ولو شابَهُ «تمايزٌ» من الجانب الفرنسي في طريقة التعبير عنه. الولايات المتحدة الأميركية تضع حزب الله على لائحة أعداء «الصفّ الأول»، فقد توسّع وتعاظمت قوّته العسكرية الرادعة لـ«إسرائيل»، إلى حدّ بات كَسره «واجباً» بالنسبة إليها وليس مُجرّد «خيار». بدأت محاولات تفكيك الدائرة المُحيطة به، عبر فرض العقوبات، فكان أهمّها تلك التي صنّفت النائب جبران باسيل على «اللائحة السوداء». العقوبات على الوزير السابق أتت وفق «قانون ماغنتسكي»، ولكنّ المعلومات تُشير إلى أنّها لن تكون الأخيرة، وتبحث واشنطن في المُضيّ أكثر في سياستها العدوانية وتفرض عقوبات جديدة على باسيل، تتّصل بشكل أوضح بعلاقته مع كلّ من حزب الله وسوريا. الإشارة إلى ذلك برزت في كلام السفيرة الأميركية لدى لبنان، دوروثي شيا، التي جاهرت بأنّ إدارتها «ما زلنا نستعمل ​سياسة​ الضغط على حزب الله. باسيل بعلاقته مع حزب الله يغطي سلاحه، فيما الأخير يغطي فساده». واشنطن تفرض العقوبات، وباريس تنظر إلى رئيس التيار الوطني الحرّ كما لو أنّه «المُعرقل» الأول، وتنتظر من حزب الله أن «يُساعدها» على إقناع حليفه بالتنازل. في النتيجة، «لا حلّ سوى في أن يقتنع الحريري بأنّه ليس بهذه الطريقة تُؤلّف الحكومة، والمطلوب هو التواصل مع الجميع»، على ما تقول مصادر في 8 آذار.حتى الساعة، لا حلّ في الأفق، طالما أنّ الحريري سيبقى أسير خطوط حُمر رسمها لنفسه بناءً على أجواء رُعاته الإقليميين والدوليين. كلام السفيرة الأميركية كان واضحاً أمس: «لم ندعم ​الحكومة​ الأخيرة لأنّ الذي ألّفها هو ​حزب الله، سنرى ماذا سيكون شكل الحكومة المقبلة لتحديد موقفنا، وسوف نصرّ على مواقفنا لأنّه إذا لم نفعل، فسيعودون إلى فسادهم ولا أحد سوف يساعدهم بتاتاً. لن يكون هناك أي شيء مجاني بعد اليوم». هدّدت شيا بأنّه «لم نفعل بعد كما دول الخليج والابتعاد عن لبنان وعدم دعمه… كان شرطنا للمساعدة في مواجهة فيروس كورونا الابتعاد عن وزارة الصحة لقرب وزير الصحة من حزب الله، والتعامل مع مؤسسات صديقة وموثوق منها كالجامعة الأميركية والجيش اللبناني». بعيداً عن أنّه يُفترض بأي «دولة» أن تُسائل قيادة الجيش حول كلام الموظفة الأميركية، ولكنّه أكبر دليل على زيف ادعاءاتها بأنّ إدارتها «تُساعد الشعب اللبناني». الولايات المتحدة الأميركية، بذريعة معركتها مع حزب الله، لا تجد مانعاً في إحراق الأرض اللبنانية وسكانها.