يختلف قرار الخزانة الأميركية أمس فرض عقوبات على رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل عن سلسلة قرارات مماثلة اتخذتها في السنوات المنصرمة. ذريعة السلسلة هذه أن المُعاقَبين إما أدوات استخدمها حزب الله لتمويله وتمدّده في نشاطات تسهيل حصوله على المال، أو ضالعون في أعمال إرهابية، أو متورّطون في تزويده معلومات أمنية، أو شركاء في علاقته بالنظام السوري. ليس لأي من المواصفات هذه علاقة بالعقوبات الجديدة المفروضة على باسيل، في الظاهر في أحسن الأحوال، سوى أنه حليف سياسي لحزب الله، يستمد تأثيره من كونه الآن رئيس الكتلة النيابية الأكبر في مجلس النواب والكتلة المسيحية الأكبر، ناهيك بكونه صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، قيل ولا يزال يُقال إنه العقبة الرئيسية في حكم البلاد.

بهذا تحمل العقوبات الأميركية مضموناً مزدوجاً في كونها تستهدف إجرائياً النائب المعني، إلا أنها تطاول معنوياً رئيس الجمهورية نظراً إلى الصلة الوثيقة التي تجمعه به. أضف الغطاء غير المشروط الذي منحه الرئيس لباسيل في أداء دوره.

(هيثم الموسوي)

ليس قرار العقوبات ابن ساعته. جيء على ذكر إشاراتها أكثر من مرة. أقربها وآخرها مع زيارة وكيل وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل لبيروت في 13 آب بعد انفجار المرفأ، واجتماعه – إلى المسؤولين وقائد الجيش العماد جوزف عون – بمروحة واسعة من السياسيين ممن هم خارج السلطة حينذاك كالرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع وسامي الجميّل وسليمان فرنجية وميشال معوض، وتعمّده عدم الاجتماع بباسيل، ما أثار علامات استفهام حيال دلالة هذا الاستبعاد، وهو إشارة سلبية كاملة المواصفات. قبلها كانت لهيل إشارة مماثلة مبطّنة عندما اجتمع في 12 كانون الثاني 2019، إبان زيارته بيروت، بباسيل، ثم زاره ثانية نهاية السنة في 21 كانون الأول وتغدّى إلى مائدته في البياضة. يومذاك طلب منه الزائر الأميركي فكّ تحالفه مع حزب الله، من غير أن يتردد في تغليف الطلب بتهديد مضمر بقوله له في لقائهما طوال ساعتين إنه «قد» يدفع ثمن هذا التحالف بإدراجه في لائحة العقوبات.
في كل مرة أثير هذا التلويح في الأشهر الأخيرة، لا يلبث أن يتبدد في الداخل اللبناني لمجرد الربط ما بين باسيل ورئيس الجمهورية، من غير أن يخفي الأميركيون أمام من يستقبلونهم في واشنطن أن ملف العقوبات مفتوح على دفتيه من غير استثناء أي أحد.
هيل هو أحد ثلاثة دبلوماسيين في الإدارة اضطلعوا بأدوار مهمة في التعامل مع لبنان. قبله كان لسلفه ريتشارد مورفي عام 1988 دور ارتبط بانتخابات رئاسة الجمهورية. ثم لاحقاً ديفيد ساترفيلد مرتين على التوالي عندما كان عام 2003 نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ثم قبل سنتين حينما شغل منصب مساعد وزير الخارجية بالنيابة طوال سنة إلى حين موافقة الكونغرس على تعيين ديفيد شنكر. خلافاً لمورفي، كان ساترفيلد وهيل سفيرين في بيروت، بيد أن الثاني كان الأطول إقامة والأكثر احتكاكاً مع عون في مراحل متفاوتة. عرف سلفاه اشتباكات مماثلة مع «الجنرال» أكثر من مرة واشتكيا بمرارة منه. رفض عون تسوية الرئاسة التي رعاها مورفي عام 1988 للخروج من الشغور الرئاسي حينذاك، فيما تكمن مرارة ساترفيلد وهيل معه في ما حدث في أيلول 1989 عندما كانا في سفارة عوكر وأرغمهما حصار أنصاره على مغادرتها وإقفال أبوابها خوفاً من مهاجمتها واحتجاز دبلوماسييها بسبب مناوأة واشنطن رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية وقتذاك.
أول تصفية حساب لساترفيلد مع عون، كانت عام 2003 عندما زار واشنطن واجتمع بالكونغرس ورغب في زيارة وزارة الخارجية، فحال ساترفيلد وكان نائب مساعد وزير الخارجية دون حضوره وأرسل إليه في الفندق موظفاً غير ذي اختصاص في ملف لبنان للاستماع إلى مطالبه. أما هيل فله سجل طويل معه. عرفه من بعد وهو كان لا يزال دبلوماسياً مبتدئاً عام 1988. ثم عمل في ظل السفير رايان كروكر ما بين عامَي 1990 و1994، قبل أن يصبح في ما بعد سفيراً ما بين عامَي 2013 و2015. اتخذ في السنة الأخيرة موقفاً مناوئاً لانتخاب عون رئيساً، مرافقاً حقبة الشغور الرئاسي، ناهيك بانتقاداته السلبية للدور الذي كان يضطلع به «الجنرال» من أجل فرض شروطه في المعادلة الداخلية. لم يكن خافياً دعم هيل ترشيح الحريري فرنجية للرئاسة في تشرين الثاني 2015. مرّت السفارة من ثم في ضمور رافق الشغور الرئاسي فيما منصب السفير شاغر. بسبب تأخر الكونغرس في الموافقة على تعيين اليزابيت ريتشارد خلفاً لهيل، حضر إلى بيروت لأشهر قليلة ريتشارد جونز الذي لمس عارفوه تعاطفاً مضمراً مع عون. أما اليزابيت ريتشارد التي باشرت مهمتها صيف 2016 فاكتفت بتحفظ بمراقبة المشهد إلى ما بعد انتخاب عون رئيساً.
مذْ بات وكيلاً لوزير الخارجية للشؤون السياسية، وهو منصب يعلو منصب مساعد وزير الخارجية، أكثَرَ هيل من زياراته لبيروت. مرتان على الأقل في السنة. ليس معتاداً لمَن في منصبه التعامل المباشر مع الملف اللبناني، معوِّلاً على خبرته فيه كما على صداقات عميقة جمعته على مر السنوات بزعماء وقيادات لا يزالون إياهم في قلب اللعبة السياسية منذ مطلع التسعينيات. اعتاد اللبنانيون استقبال الزائر الطبيعي مساعد وزير الخارجية وآخرهم شنكر، بعدما جرّبوا قبلهم أترابه كمورفي ووليم بيرنز وروبرت بيلليترو وجون كيلي.
ليس السجل السلبي في علاقة هيل مع عون، وتالياً مع باسيل، منفصلاً عن المسار الذي أفضى في نهاية المطاف إلى فرض عقوبات على الصهر الوزير السابق.أكثر من مغزى في الداخل اللبناني بات يعنيه توقيت قرار الخزانة الأميركية:
أولها، على أبواب انتقال السلطة من إدارة إلى أخرى سيؤدي، مع تنامي حظوظ جو بايدن في الوصول المحتمل إلى البيت الأبيض، إلى مغادرة هيل وشنكر ناهيك بوزير الخارجية مايك بومبيو مناصبهم. مع أن من الصعب تمييز إدارة ديمقراطية عن إدارة جمهورية في نظرتهما المشتركة إلى حزب الله وملاحقته والإصرار على مطاردته بالعقوبات والتمسك بقانون عدّه منظمة إرهابية، إلا أن لتوقيت قرار الخزانة بعداً منفصلاً في الأيام القليلة المتبقية من الولاية الأميركية الحالية. يبعث ذلك على الشكوك في تصفية حساب سياسي مع باسيل، لكن قبلاً كرسالة مضمرة إلى عمّه الرئيس، وإلى السنتين المتبقيتين من ولايته.
ثانيها، ليس باسيل أول حلفاء حزب الله، ولا هو أقدمهم وأصلبهم. لا تجمعه به ما تجمع فرنجية على الأقل لعقود مضت، ناهيك بعلاقة الزعيم الزغرتاوي بنظام الرئيس بشار الأسد. ظاهر العقوبات اتهامه بالفساد، هو الذي كان آخر الوافدين إليه بدءاً من دخوله السلطة عام 2008. ليس خافياً على الأميركيين أن أقرب الحلفاء اللبنانيين إليهم هم آباء الفساد وصانعو ثقافته، أحياء بعد راحلين.
ثالثها، محاولة إخراج باسيل من المعادلة السياسية بحرمانه توزيره لاحقاً، وليس فحسب حقيبة الخارجية أو وضعها في يد أحد ينتمي إلى تياره. أضف مقاطعته سياسياً من السفيرة الأميركية في بيروت، كما من الزوار الأميركيين، وإيصاد آخر ما تبقّى من طموحات الرئاسة المقبلة.
رابعها، التعويل على تحوّل العقوبات سيفاً مصلتاً على رئيس الجمهورية لإرغامه على تقديم تنازلات في تأليف الحكومة، وتالياً الانصياع إلى شروط الحريري الذي يبدو الآن أكثر المستفيدين من توقيت العقوبات بغية إخراج رئيس التيار الوطني من دور المفاوض غير المباشر في تأليف الحكومة.