بات دونالد ترامب أقرب مِن أيّ وقتٍ مضى إلى تصديق واقع أن النصر ربّما لا يكون حليفه هذه المرّة. وهو بات يتعامل مع انتخاباتٍ يمكن أن لا تصنع منه رئيساً لولاية ثانية، على أنها مؤامرة حيكت لإطاحته. رفضُ الرئيس الأميركي التسليم باحتمال الخسارة أمام منافسه جو بايدن في ثاني أيام انتظار النتيجة، دفعه إلى إطلاق معركة قضائية مدعومة بتحرّكات مسلّحة لمناصريه، لوضع حدٍّ لعمليات «التزوير» ووقف تعداد الأصوات «غير القانونية» في ولايات رئيسة مِن شأنها أن تحسم مصير السباق. سباقٌ تُبيّن النتائج الأوّلية أن بايدن لا يزال الأوفر حظّاً لتصدّره، مع اقترابه من بلوغ عتبة أصوات المجمع الانتخابي الـ270 الضروريّة لإعلانه رئيساً. وهو إعلان – لو حصل – سيفتح الباب على تأزّم لم يسبق أن شهدت الولايات المتحدة له مثيلاً، ولا سيما أن ترامب يبدو عازماً على إثبات نبوءته: أنا أو الفوضى!

أوقفوا العدّ
لا يزال دونالد ترامب يرى الفرصة ماثلةً أمامه للفوز بولاية رئاسية ثانية. يدفعه تشكيكه في سلامة العملية الانتخابية واستمرار فرز الأصوات المرسَلة عبر البريد في عدد من الولايات، واحتمال أن تصبّ معظمها في مصلحة منافسه جو بايدن، إلى المطالبة بوقف العدّ، وإعلانه رئيساً. يكافح الرئيس الأميركي المنتهية ولايته من أجل حصر الفرز ببطاقات الاقتراع الواردة يوم الثالث من الشهر الجاري، اعتقاداً منه بأن احتسابها – وحدها – من شأنه أن يُعزِّز حظوظه. لكن الفرز والعملّية الانتخابية برمّتها يعتبران حقّاً حصريّاً للحُكم المحلّي في الولايات الأميركية، ما يعيق تدخلات الرئيس إلّا في حالة واحدة: إعلان حالة الطوارئ في إحداها (وهذا ليس ممكناً ما لم يكن مرفقاً بطلبٍ من حاكم الولاية نفسه). يبقى أمام ترامب مخرج واحد، وهو نقل المعركة إلى القضاء، كما سبق ووعد قبل يومين، وقبلها حين استشرف بلوغ رئاسيات 2020 عتبة المحكمة العليا.
بالفعل، هدّد الرئيس الأميركي بتقديم مزيد من الطعون القضائية في نتائج الانتخابات في عدد من الولايات، زاعماً حدوث تزوير في ولايات فاز فيها منافسه الديمقراطي. ودعت حملته إلى إعادة إحصاء الأصوات في ولاية ويسكونسن، ورفعت دعاوى قضائية لوقف الإحصاء في ميشيغان وبنسلفانيا ونيفادا، كما طلبت من القضاء في جورجيا أن يصدر أمراً بفصل بطاقات الاقتراع التي تصل متأخرة وتأمينها كي لا تُحصى (جورجيا وميشيغان أسقطتا الدعاوى لعدم كفاية الأدلّة). على أن الشكاوى التي رفعتها حملة ترامب تستهدف جانباً معيّناً من انتخابات 2020، يتعلّق بإدلاء ملايين الناخبين بأصواتهم عن طريق البريد، ما يتطلّب مزيداً من الوقت لعملية فرز الأصوات. في الإطار عينه، نقلت «نيويورك تايمز» عن مصادر وصفتها بالمطّلعة قولها إن وزارة العدل الأميركية أبلغت المدّعين العامين بأن القانون يسمح لهم بإرسال ضباط اتّحاديين مسلّحين إلى مواقع فرز بطاقات الاقتراع، للتحقيق في احتمال حصول عمليات تزوير في الانتخابات. وأضافت الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين سابقين، أن رسالة وزارة العدل أثارت مخاوف من احتمال تدخّل الحكومة في الانتخابات محلياً أو في فرز الأصوات.

لا يبدو اللجوء إلى القضاء فكرةً جيدة بالنسبة إلى ترامب، حتّى وإن كان راغباً في الذهاب إلى المحكمة العليا. الوقت ليس في مصلحته، وهو يعي أن طريق المحكمة طويل، وأن هناك ما هو ثابت في هذه العملية: لو تمّ قبول أيّ من دعاوى حملته القضائية واستمر التقاضي حتى 20 كانون الثاني/ يناير 2021، فإن المدّة القانونيّة لولايته الرئاسية الأولى تكون قد انتهت، ما يعني أنه سيضطرّ لترك منصبه، ما لم يتمّ تأكيد انتخابه مجدداً. وستدير رئيسة مجلس النواب الديمقراطية، نانسي بيلوسي، أميركا موقّتاً لحين انتهاء التقاضي وتحديد اسم الرئيس. بالنسبة إلى العملية القانونية، فتبدو معقّدة هي الأخرى؛ إذ تبدأ من المحكمة الفدرالية الصغرى في ولاية معيّنة، وإذا لم يأتِ الحكم في مصلحة المُدَّعي، يتّجه الأخير إلى محكمة الاستئناف، ومن بعدها إلى المحكمة العليا في الولاية، قبل أن ينتقل، في المرحلة الأخيرة، إلى المحكمة العليا في واشنطن والتي يمكنها أيضاً أن ترفض الطلب إذا أرادت إظهار «حياديتها». مع ذلك، يثير سلوك ترامب خشيةً من حسم النتيجة في النهاية، كما حصل في عام 2000، بقرار للمحكمة العليا يحدِّد للولايات طريقة إحصاء الأصوات. في ذلك العام، حَسمت الانتخاباتِ الرئاسية التي تنافس فيها الجمهوري جورج دبليو بوش والديمقراطي آل غور، ولاية واحدة هي فلوريدا. ومع فارق 537 صوتاً فقط لمصلحة بوش، إضافة إلى مشكلات في بطاقات الاقتراع الخاصة بالولاية، طلبت حملة آل غور فرزاً جديداً للأصوات في الولاية برمّتها. وطعنت حملة بوش في الطلب أمام المحكمة العليا التي قضت بعدم إعادة الفرز ومنحت الفوز بفلوريدا وبالانتخابات إلى بوش.

بايدن يتصدّر
لم يعد أمام المرشّح الديمقراطي سوى الفوز في واحدة أو اثنتين من الولايات الرئيسة الباقية ليصبح الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، إذ بات يحظى، ابتداءً من صباح يوم أمس، بدعم 253 أو 264 من كبار الناخبين إذا تمّ احتساب أريزونا (11 صوتاً)، التي اعتبرت وكالة «أسوشييتد برس» وشبكة «فوكس نيوز» أنه فاز فيها، لكن وسائل إعلام أخرى لا تزال تشكّك في النتيجة النهائية لهذه الولاية بسبب عدد الأصوات التي يجب تعدادها واشتداد المنافسة في الساعات الماضية. وبعد تحقيقه فوزَين مؤكّدين في ميشيغان وويسكونسن، لم يعد بايدن يحتاج إلّا إلى أصوات ستة أو 17 من الناخبين الكبار للحصول على الأصوات الـ270 اللازمة، والتي قد ينالها في نيفادا (6) وجورجيا (16) أو بنسلفانيا (20). في المقابل، يستفيد ترامب في أريزونا من الأصوات التي يتمّ فرزها تباعاً، إذ إن الفارق يتقلّص بينه وبين منافسه، وقد يخسر المرشح الديمقراطي كبار الناخبين الـ11 الذين احتسبتهم «فوكس نيوز» و«إيه بي» لمصلحته على أساس نتائج جزئية ونماذج إحصائية. ويضيق الفارق في السباق الانتخابي في خمس ولايات، إذ يتقدّم بايدن قليلاً في نيفادا وأريزونا في حين يراقب ترامب تقلّص تقدّمه السابق في بنسلفانيا وجورجيا الحاسمَتين مع فرز الأصوات المرسَلة بالبريد أو غيره من أشكال التصويت الغيابي، بينما يحافظ ترامب على تقدُّم بسيط في ولاية كارولاينا الشمالية.

شغب
في موازاة إطلاق معركة قضائية، بدأت تحرّكات أنصار ترامب في عدد من المدن الأميركية. ومع تصاعد التوتّر، تظاهر هؤلاء في فيلادلفيا/ بنسلفانيا، مطالبين بوقف عمليات فرز الأصوات. وتجمّع، ليل أول من أمس، نحو 200 من أنصاره – بعضهم مسلّحون ببنادق ومسدسات – أمام مركز اقتراع في فينيكس/ أريزونا بعد تردّد شائعات عن عدم إحصاء أصوات للرئيس الجمهوري، مردّدين عبارة «احتسبوا الأصوات!»، و«عار على قناة فوكس». لكن في الولايات التي تقدّم فيها بايدن، مثل ميشيغان، هتف مناصروه «أوقفوا الاقتراع!». في هذا الوقت، أطلق مقرّبون من الرئيس الأميركي حملةً على مواقع التواصل الاجتماعي تسعى إلى إقناع قاعدة ترامب بأن هناك عمليات تزوير مكثّفة تجري، ولا سيما في ولايات مثل بنسلفانيا التي يحكمها ديمقراطيون. واعتقلت الشرطة 11 شخصاً وصادرت أسلحة في بورتلاند/ أوريغون بعد أنباء عن أعمال شغب، كما حدثت اعتقالات في نيويورك ودنفر ومينيابوليس.
أظهرت هذه الانتخابات أن التيار الذي نشأ حول الرئيس المنتهية ولايته أكبر وأكثر صلابة ممّا كان يُعتقد، وسيستمر بعد الانتخابات، مهما جاءت نتيجتها. وإن كانت قاعدة الرئيس الانتخابية تقلّصت خصوصاً إلى شريحة واحدة يشكّل غالبيتها الرجال البيض الريفيون المتقدّمون في السن، إلّا أن ترامب سيجمع، في الحدّ الأدنى، بحسب التوقعات، ثالث أكبر عدد من الأصوات في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية، بعد خصمه جو بايدن والرئيس السابق باراك أوباما (2008).