ماذا لو فاز جو بايدن؟ هل ستكون هناك عودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بصيغته الأصلية التي تفاهم عليها وزيرا الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، والأميركي السابق جون كيري؟ هل سيحصل تصالح إيراني – أميركي، كانت بوادره قد بدأت في الظهور أيام الرئيس السابق، باراك أوباما؟ هل سيُلغي بايدن قرارات ترامب، وتعود الأمور مع إيران إلى نصابها و«كأنّ شيئاً لم يكن»؟
الإجابة ليست سهلة، ولا تمكن مصادرة احتمالاتها على قاعدة أن «بايدن كان مع الاتفاwق أصلاً، وهو بالتالي سيعود إليه». الحقيقة أن الضرر الذي أحدثه ترامب قد يكون دائماً أو طويل المدى، والكُسر الذي تسبّب به لا يمكن أن يُجبر، حتى لو كان أصحاب القرار الجديد هم ذاتهم مَن صنعوا الاتفاق القديم (الرئيس الإيراني حسن روحاني، ووزير خارجيّته من جهة، وبايدن من جهة). الجزء الأصعب والأعقد، في المعادلة الحالية، هو الجانب الإيراني. في إيران، سيكون من الصعب جداً – إن لم يكن مستحيلاً – على الثنائي روحاني – ظريف إعادة إقناع الداخل بأبعاده المتعدّدة (مؤسّسة المرشد الأعلى – مجلس الشورى – الحرس الثوري والمؤسّسة العسكرية – المجتمع المدني والصحافة – وحتى داخل وزارة الخارجية ذاتها) بأن الاتفاق القديم سيكون قادراً على حفظ مصلحة إيران القومية. هناك إجماع وطني حقيقي في إيران، يشمل حتّى القوى المعارِضة للنظام، على أن الجمهورية الإسلامية أدّت ما عليها بموجب الاتفاق، ووفت بالتزاماتها، وأن أداءها السياسي والاستراتيجي لم تَشُبْه شائبة. ولكن مع ذلك، وعلى رغم كلّ الضمانات والتعهّدات المكتوبة والموثّقة التي نجحت في الحصول عليها لحفظ حقوقها، تمّ شطب ما جرى التوصّل إليه بجرّة قلم من الرئيس الأميركي. فما الذي يضمن ألا يتكرّر ذلك؟ وإذا كانت الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا والصين، والمواثيق والأعراف والقوانين الدولية، كلّها، لم تستطع أن تحفظ لإيران حقّها، ولا أن توقف سياسة دونالد ترامب العدائية تجاهها، فكيف يمكن الوثوق باتفاقٍ جديد مع واشنطن؟
لقد كان المرشد الأعلى علي خامنئي، ومعه الحرس الثوري، متشكّكَين من البداية في جدوى الاتفاق مع الولايات المتحدة. وعبّر خامنئي عن ذلك علناً، حين قال إنه لا يمكن الوثوق بأميركا، ولكنّه قرّر، في النهاية، الإصغاء إلى روحاني – ظريف، وإعطاءهما الفرصة لإتمام الاتفاق، الذي أكّدا أنه يصبّ في المصلحة الحيوية للأمّة الإيرانية، كما أنه ضروري من أجل اقتصادها وتقدّمها. أعطى خامنئي الضوء الأخضر لهما، من منطلق «حسناً، افعلوا ما ترونه في مصلحة إيران، وسنرى ماذا سيحدث»، وعمد في الوقت ذاته إلى ضبط مؤسّسة الحرس الثوري، وكبْح جماح قياداتها المؤثّرة، والتي رأت أن ما يقوم به روحاني – ظريف تجاوزٌ للخطوط الحمر والمبادئ التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية. كان خامنئي، بقراره هذا، يأخذ في الاعتبار الضغوط المجتمعية في اتجاه إبرام اتفاق هو بمثابة حاجة ماسّة لفتح الآفاق والخروج من الأزمات المعيشية والاندماج في الاقتصاد العالمي، قائلاً للداخل الإيراني بكلّ أطيافه: «نحن سنذهب إلى أقصى مدى من أجل مصلحة إيران الوطنية، سنفاوض بكلّ جدية، وسنتحلّى بالصبر والمرونة، ولن نضع العراقيل». وهذا ما حصل بالفعل. نجحت إيران، بدبلوماسيّتها وحنكة مفاوضيها، في الوصول إلى اتفاق متوازن، وشهد الشعب الإيراني كلّه بذلك، وبأن الاعتبارات الأيديولوجية لم تمنع النظام من التصرّف بحكمة وواقعية. ولم يعد باستطاعة أحد داخل إيران أن يلوم نظام الثورة الإسلامية، أو يتّهمه بالتحجّر السياسي أو التفريط بمصلحة الشعب لاعتبارات ثورية – أيديولوجية.

ولكن، الآن، اتّضحت الصورة، وبان كلّ شيء. لقد كانت شكوك المرشد في محلّها، وثَبُت خطأ كلّ الذين أحسنوا الظن بالولايات المتحدة داخل إيران، وحسبوا أنّهم نجحوا في تجاوز الماضي الصعب، وبالتالي فتحوا صفحة جديدة. وصار ظاهراً للجميع أن المشكلة ليست في إيران، بل في الطرف الآخر، الأميركي، الذي يأبى قبول حدٍّ أدنى من العلاقة القائمة على الاحترام. لن يقبل ترامب، والجهات التي يعبّر عنها (وهي كثيرة، تبدأ من اليمين المسيحي المتصهيِن، ولا تنتهي عند صقور الحرب في المجمع الصناعي العسكري) بصفقة يعتبرها ضماناً لاستمرار نظام الثورة الإسلامية واستقراره. في نظر كلّ هذه الأطراف، يجب إسقاط النظام القائم، أو كحدٍّ أدنى تغييره جذرياً، بحيث تعود إيران إلى ما كانت عليه أيام حكم الشاه رضا بهلوي، تابعاً مطيعاً للسيّد الأميركي. عندها فقط، تمكن المصالحة معها، أي بمعنى آخر: انتقامٌ تاريخي لهزيمة أميركا في إيران عام 1979.
ما العمل إذاً؟ لا خيارات كثيرة أمام القيادة الإيرانية. فحتى لو فاز بايدن، لا بدّ من التعامل بحذر مضاعف معه، أو بعبارة أخرى، عدم الركون إلى الاعتقاد بأن المشاكل مع أميركا يمكن أن تُحلّ حقاً. أمّا ما يمكن أن يحصل على أرض الواقع، فهو أن يبادر بايدن إلى فتح باب الحوار، للعودة بشكلٍ ما إلى الاتفاق النووي ذاته، أو إلى شيءٍ جديد قريبٍ جداً منه. ومن المتوقع أيضاً، أن تستجيب إيران الرسمية لطلب استئناف الحوار، ولكنّها ستضع المزيد من الشروط، وتطالب بتعويضات وضمانات إضافية. وهذا لا ينفي أن بايدن، وحزبه الديمقراطي، بما يملكانه من ميكافيلية وانتهازية سياسية، قد يستغلّان الوضع الذي ورثاه عن ترامب، أي العقوبات القاسية بما لها من تأثير مدمّر على الاقتصاد الإيراني، من أجل الضغط على طهران، كي تنضمّ إلى المفاوضات الجديدة، وهي في وضع أضعف. الأمرُ، إذن، قد يستغرق سنوات وسنوات حتى يُثمر، وخلالها ستستمرّ إيران في اتباع الاستراتيجية نفسها في المنطقة. صحيح أنها تئنّ تحت وطأة الحصار المالي الخانق المطبق عليها، ولكنّ فكرة العودة إلى اتفاق سريع مع بايدن، بالشروط القديمة ذاتها، ليست خياراً سياسياً مقبولاً. ففي هذه الأثناء، تعزّزت، بالفعل، مواقع الجناح الثوري داخل إيران، على حساب المعتدلين، بسبب ترامب وعدوانيّته (وساهم اغتيال الجنرال قاسم سليماني في ذلك). وفي السنة المقبلة، 2021، ستنتخب إيران رئيساً جديداً لها خَلَفاً لروحاني، وعندها ربّما سنشهد عودة لتيار أحمدي نجاد، أو ما يشبهه، ليمسك بمقاليد الرئاسة.
وإن كان ذلك يعني شيئاً بالنسبة إلى الجانب الأميركي، فهو أن بايدن سيضطرّ إلى الدخول في جولاتٍ طويلة من التفاوض مع الكونغرس، لإقناعه بإعادة إحياء الاتفاق النووي، وهو أمر ليس سهلاً، على رغم ما قد تتمخّض عنه انتخابات الكونغرس من فوزٍ ديمقراطي. فإيران، هذه المرّة، من المتوقّع أن تصرّ على معاهدة رسمية ملزِمة، يصدّق عليها الكونغرس (وهو ما لم يحصل في اتفاقية عام 2015)، حتى لا يكون الخروج منها أمراً يسيراً بالنسبة إلى أيّ رئيس أميركي في المستقبل. ونظراً إلى قوة ونفوذ اللوبي الصهيوني، فإن موافقة الكونغرس بجناحَيه على اتفاق مع إيران أمرٌ مستبعد جداً.
نجح ترامب في مسعاه. هو لم يُخرج أميركا من الاتفاق المنجز فقط، ولكنه أيضاً قضى على فرصة العودة مستقبلاً إلى الاتفاق ذاته، أو أيّ اتفاق ذي مضمون حقيقي.