تحقيقات - ملفات

الشباب أعداء إسرائيل الجُدد في الشرق الأوسط

مصطفى شلش-180 بوست
تدخل إسرائيل عشرينيات القرن الحالي وهي تتطلع إلى منطقتها من موقع قوة. مؤخراً قد وقعت إسرائيل معاهدات لتطبيع العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان، ما يؤدي إلى إحداث تحولات دراماتيكية علنية في موقف إسرائيل الإقليمي.

بالمقارنة مع جيرانها، تتمتع إسرائيل بالتفوق العسكري والقوة الاقتصادية، على الرغم من الخسائر الفادحة لوباء COVID-19 المستمر. وعلى بعض الأصعدة، لم تكن إسرائيل أكثر أمانًا في أي وقت مضى مثل الآن. في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، صدرت ورقة بحثية عن مؤسسة “بروكينغز” بعنوان: “إسرائيل في الشرق الأوسط، العقدين المقبلين” – إعداد: ناتان ساكس، و كيفن هاغارد، تبحث بعض الاتجاهات الرئيسية التي من المحتمل أن تشكل سياسة إسرائيل خلال السنوات العشرين المقبلة، وكيف ستغير هذه الاتجاهات طبيعة التهديد المحيط بهذا الكيان المُحتل.

ولعل أهم ما جاء في هذه الورقة – مِن وجهة نظرنا- هو مواجهة إسرائيل في العقدين المقبلين فاعلين “طبيعيين” يصنعان بيئة مُهددة لها وهما: “تغير المناخ والآثار ذات الصلة مثل الصدمات الإقتصادية وفشل الحكم، ومعدلات أعمار سكان الشرق الأوسط ما يجعل دول الجوار ذات أغلبية مِن الشباب الرافض لكثير من سياسات الأنظمة الحاكمة لهذه البلدان”.

تغير المناخ والآثار ذات الصلة

من المرجح أن يكون الشرق الأوسط أحد أكثر مناطق العالم تضرراً من تغير المناخ، فالمنطقة جافة، وتعتمد بشكل رئيسي على الأنهار، وسيكون لتراجع معدل هطول الأمطار عواقب اقتصادية وبشرية وخيمة، برغم قرارات الحكومية المتعلقة بتحلية المياه والاستخدام المناسب للمياه.

كما أن المنطقة تتعرض لمزيج مِن درجات الحرارة المرتفعة في الصيف والرطوبة، ومن النادر أن يمكن للمرء أن يقضي وقته بأمان في الهواء الطلق في بعض دول الخليج، لذا سيكون ارتفاع درجات الحرارة محسوساً بشدة. أما في منطقة الساحل حيث الكثافة العالية مِن السكان، فقد يعني الارتفاع الكبير في مستوى سطح البحر تعطل حياة الملايين.

وخلص تقرير تقييم تغير المناخ العربي للعام 2017 إلى أن “جميع التوقعات تشير إلى أن درجات الحرارة سترتفع فوق المنطقة العربية خلال هذا القرن”. وفي منتصف القرن، يُظهر تغير المناخ زيادة قدرها 1.2 درجة مئوية، بينما يُظهر التغير الأكثر حدة زيادة قدرها 1.7 درجة مئوية. وفي أجزاء من المنطقة، لا سيما الخليج، موجات الحر تهدد حياة البشر بالفعل.

أشار معهد الموارد العالمية إلى أن 17 دولة ستواجه فقراً مائياً شديدًا، منها 12 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وفي حين أن العديد من هذه الدول، وعلى الأخص إسرائيل، تقوم بتحلية المياه لتلبية احتياجاتها، فإن هذا يتطلب طاقة مكثفة والتزامات مالية غير متوفرة للعديد من دول المنطقة.

ستواجه الأنهار الأساسية في المنطقة ضغوطاً متزايدة بسبب انخفاض معدلات هطول الأمطار، مع زيادة إستهلاك المياه بسبب النمو السكاني، وارتفاع مستويات سطح البحر،  ما يهدد بغمر المياه المالحة للأراضي الصالحة للزراعة.

ويشير تقرير صدر عام 2014 عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن “الانخفاض في هطول الأمطار على شمال إفريقيا مرجح جداً بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين”.

وتظهر النمذجة التي أجرتها المبادرة الإقليمية لتقييم آثار تغير المناخ على الموارد المائية وأضراره على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة العربية (RICCAR) أن تدفق المياه سينخفض بأكثر من 50٪ في نهر الفرات وبنسبة 25٪ في نهر دجلة بحلول عام 2050.

وذكر تقرير للبنك الدولي للعام 2017 أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستتعرض لأكبر الخسائر الاقتصادية المتوقعة بسبب ندرة المياه، بما يقدر بنحو 6 إلى 14٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050. ويسلط نفس التقرير الضوء على أن “مخاطر الفيضانات والجفاف تتزايد ومن المحتمل أن تلحق الضرر بالفقراء بشكل غير متناسب”.

ويشكل ارتفاع مستوى سطح البحر ظاهرة غير تقليدية، وربما كارثية. يتوقع الفريق الأممي المعني بتغير المناخ أن مستويات البحار في البحر الأبيض المتوسط سترتفع بمقدار 0.3 إلى متر واحد هذا القرن. وسيؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر في الخليج والبحر الأبيض المتوسط إلى مشاكل حادة للعديد من البلدان على طول هذه المسطحات المائية، لا سيما المناطق الساحلية المنخفضة المكتظة بالسكان. من بين هذه الدول يمكن الإشارة إلى مصر، خصوصاً مع وجود دلتا النيل المنخفضة، ما يجعلها معرضة للخطر بشكل خاص، حيث يعيش ما يقرب من 25٪ من سكانها البالغ عددهم 100 مليون نسمة في المنطقة الساحلية المنخفضة، بينما يقع 30 إلى 40٪ من إنتاجها الزراعي في الدلتا. لذا توقع تقرير للبنك الدولي عام 2007 أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار متر واحد سيؤدي إلى تشريد 10٪ من سكان مصر.

وتوقع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن تصل الخسائر الاقتصادية المصرية بسبب تغير المناخ إلى عدة مئات مليارات من الجنيهات المصرية (عشرات مليارات الدولارات) بحلول عام 2060. تتضمن هذه التوقعات بالضرورة درجة عالية من عدم اليقين في ما يتعلق بالنطاق، ولكن الخطر الشديد واضح. ويعيش جزء كبير من مستوطني إسرائيل أيضاً على طول الساحل. وفي حين أن إسرائيل ستكون لديها قدرة أكبر على التخفيف من المخاطر التي تتعرض لها البنية التحتية في المراكز السكانية الرئيسية، إلا أنها غير مستعدة إلى حد كبير للقيام بذلك في الوقت الحالي، وستشكل الموارد المطلوبة ضغطًا كبيرًا على مالية الدولة ومؤسساتها.

لن تقتصر آثار هذه التغييرات على المعاناة الإنسانية أو الأضرار الاقتصادية وحدها، بل أن المخاطر الأمنية التي  ستتبعها بالضرورة. وبالنظر إلى المستقبل، ستستمر الهجرة المتسارعة بسبب تغير المناخ في تحدي قدرات حكومات الشرق الأوسط على الحفاظ على الاستقرار مع تحرك مواطنيها داخلياً، أو الهجرة نحو أوروبا. علاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي المنافسة على الموارد المائية إلى تأجيج التوترات السياسية، كما هي الحال مع سد النهضة العملاق الذي نوقشت أثاره كثيراً، والذي يتم بناؤه في إثيوبيا على النيل الأزرق، وتأثيراته على دول المصب مثل مصر.

بالنسبة إلى إسرائيل، خففت تقنيات تحلية المياه من مشكلة ندرة المياه، لكن السيطرة على الموارد المائية لا تزال نقطة اشتعال محتملة مع كل من الأردن والفلسطينيين.

في غزة، على وجه الخصوص، يؤدي ارتفاع مستويات التلوث والملوحة إلى جعل الكثير من المياه الجوفية غير صالحة للشرب، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية هناك إلى حد كبير وزيادة التوترات مرة أخرى مع إسرائيل.

تغير المناخ ليس مجرد احتمال مستقبلي في المنطقة. وفي حين أن الاضطرابات التي أعقبت عام 2011 في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يمكن تتبعها وفهمها في ضوء تغيرات المناخ، فقد ربطت العديد من الدراسات الاضطرابات في المنطقة بالضغوط المناخية المتفاقمة مثل الجفاف، فتأثيرات المناخ ستؤدي بالضرورة إلى زيادة العبء على المؤسسات والموارد الحكومية الضئيلة.

كل من هذه التحديات المتعلقة بالمناخ ستخلق المزيد من المشاكل السياسية لمنطقة لا تستطيع تحملها. ستكون البلدان والمناطق الأكثر ثراءً في وضع أفضل للتخفيف من آثار ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض معدلات هطول الأمطار، وارتفاع مستويات سطح البحر، ولكن لن تتمكن أية دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الهروب من هذه التغييرات بالكامل. أبعد من ذلك، يمكن أن تؤدي الأزمات الناتجة أو التي تفاقمت بسبب تغير المناخ إلى موجات جديدة من الإضطرابات والهجرة من المنطقة.

الشباب وضغوط الحوكمة

في العام 2011، تركت الإخفاقات طويلة الأمد للحوكمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا القادة غير قادرين على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية المتزايدة. وفي جميع أنحاء المنطقة، لم تستطع المؤسسات السياسية والاقتصادية الضعيفة إدارة الضغوط الناتجة عن ارتفاع نسبة الشباب، من بين عدة عوامل أخرى. ومع وصول إخفاقات الحوكمة الاقتصادية والسياسية إلى نقاط الأزمة، ارتفعت الإحتجاجات بين الجماهير. وأدت الاضطرابات التي أعقبت ذلك، والتي تحولت إلى أعمال عنف وسط حملات القمع الحكومية في بلدان مثل سوريا، إلى قلب الجغرافيا السياسية الإقليمية وزادت من التهديدات لدول أخرى أيضاً.

ويكمن أحد عوامل الضغط على إسرائيل بشكل خاص في سن “الشباب النسبي” لسكان المنطقة، حيث ساهم هذا إلى جانب عوامل أخرى من الضغوط التي أثقلت كاهل الهياكل المؤسسية الضعيفة  في إشعال الانتفاضات العربية، فالشباب في المنطقة – وعجز حكوماتها عن توفير الفرص الاقتصادية لهم – يوضح الطبيعة العميقة والمستمرة للمشكلة.

وفي حين أن الجزء الأكبر من الطفرة الشبابية في بعض البلدان قد مر بالفعل، لكن الملامح الديموغرافية في المنطقة لا تزال خاضعة لضغط الشباب.

علاوة على ذلك، لا تزال معظم الحكومات غير قادرة على خلق وظائف كافية لتوظيف أبنائها، فقد كانت معدلات بطالة الشباب في المنطقة هي الأعلى في العالم لأكثر من 25 عاماً، حيث وصلت إلى 30٪ في عام 2017.

الشباب هدية وستبقى قوة تأثيرهم موجودة لمدة 20 عاماً أخرى (حتى العام 2040) في معظم دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وحتى ذلك العام تقريباً، لا يزال بإمكان اقتصادات المنطقة الاستفادة من عدد الشباب الكبير فيها. لكن الفشل في الاستفادة من هذه الفرصة السانحة سيكون كارثياً على المنطقة. وحالة مرور هذا النمو الشبابي دون فرص اقتصادية وسياسية سيخلق “ضغوطًا غير مسبوقة” على البلدان، ما يزيد من احتمالية اندلاع الاضطرابات المدنية والصراعات العسكرية. ويبرز عدد قليل من بلدان المنطقة باعتبارها شابة بشكل خاص. في العام 2019، سجل اليمن (19.8 سنة) أدنى متوسط عمر في المنطقة، تليه الأراضي الفلسطينية (20.0 سنة)، ثم الأردن والعراق (21.4 سنة)، بينما متوسط العمر في قطاع غزة – لو فصلناه عن الضفة الغربية – فسيكون (17.4 سنة) أي أقل من أي دولة أخرى في المنطقة.

أظهرت السنوات الأخيرة إلى أي مدى يظل سكان المنطقة متحمسين لإنهاء إحباطاتهم الاقتصادية والسياسية. وشهد عام 2019 إزاحة اثنين من القادة الاستبداديين في المنطقة، مع الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير والجزائري عبد العزيز بوتفليقة من خلال احتجاجات حاشدة، حتى لو كانت أهمية إزالتهم ما هي إلا تغيير جيوسياسي محدود. كما ضربت احتجاجات أخرى حكومتي العراق ولبنان. في حين أن كل حركة احتجاجية نشأت من مزيج خاص من الإحباطات والمطالب التي يحددها السياق المحلي، فإن هذه الهزات، التي تعكس الزلزال السياسي الذي أطلقته الانتفاضات العربية عام 2011 ، تُظهر أن اللحظة الثورية في المنطقة لم تنته بعد.

علاوة على ذلك ، في محاولة للسيطرة على الاستياء والقضاء عليه استجابت الأنظمة العربية للانتفاضات العربية بأن أصبحت أكثر قمعية في السنوات الأخيرة. ويمكن أن تنجح المستويات المتطرفة من القمع على المدى القصير من خلال رفع تكلفة الاحتجاج إلى درجة أن قلة قليلة فقط هي على استعداد لتعريض حياتها للخطر. ومع ذلك، فإن مثل هذا النهج يوفر وهمًا بالاستقرار النسبي، إلا أنه يخاطر بقدر أكبر من عدم الاستقرار في إطار زمني أطول.

جلبت الاضطرابات أيضًا مزايا دبلوماسية وأمنية لإسرائيل. ربما تكون الاضطرابات الجماهيرية قد أقنعت بعض الحكومات في المنطقة بالتخلص من العداء تجاه إسرائيل، بدلاً من التركيز على احتواء الإحباطات المحلية، بحساب أن التهديد الحقيقي لاستمرار حكمهم يكمن في الداخل. ومع ذلك، فإن المزيد من الانتفاضات يمكن أن يزيل بعض هؤلاء القادة بسهولة من السلطة. وحتى لو بقيت في مكانها، يمكن للحكومات غير المتماسكة البحث عن أعداء خارجيين لصرف انتباه الغضب الداخلي، مع احتمال أن تكون إسرائيل مرشحة لتلعب دور العدو.

مستقبل السياسة الإسرائيلة

في مواجهة آثار تغير المناخ،  ستأخذ إسرائيل على محمل الجد المخاطر المتعلقة بالبنية التحتية، وتلك المتعلقة بارتفاع درجة الحرارة في معظم أراضيها المُحتلة. ومع التأثيرات الدراماتيكية على المنطقة الأوسع، وفي حين أن إسرائيل وحدها لا تستطيع أن تغير كثيرًا في ما يتعلق بالظاهرة الأوسع، إلا أنها تستطيع المساهمة، بطرق بسيطة ولكنها ذات مغزى، خصوصًا على صعيد التكيف محليًا مع جيرانها. فالمناخ، والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي تسهم في عدم الاستقرار المتوقع في الشرق الأوسط هي فعليًا خارج سيطرة إسرائيل. لذا يجب على إسرائيل تجنب التورط في المشاكل الداخلية للدول المجاورة، وهو درس تعلمته إسرائيل بعد كارثة إحتلالها لبنان في ثمانينيات القرن الماضي.

 كما أن التقدم التكنولوجي وقدرة إسرائيل على لعب دور المركز للابتكار التكنولوجي يفتحان إمكانية التأثير الإسرائيلي في هذا المجال الحيوي الأقليمي، خاصة مع الانفتاح الجديد أمام الصناعة الإسرائيلية في العالم العربي. وتتضاءل القيود السياسية اليوم أمامها، ما يجعل إمكانية تطوير تلك الصناعة التكنولوجية وجعل التكيف هدفاً إستراتيجيا لها.

وتتطلب التغييرات السريعة في التكنولوجيا استمرار الجهود الإسرائيلية القوية لدفع إجراءات الردع الخاصة بها لكي تقترن بمضاعفة الجهود للحد من تعرض البنية التحتية المدنية الإسرائيلية للهجمات، خصوصاً في ظل تطور قدرات الأطراف الأضعف حتى الآن. وستضطر إسرائيل إلى تبني نهج أكثر حذراً في القتال منخفض التكلفة والقوة ضد الجماعات المعادية والاعتماد أكثر على الردع، حيثما أمكن ذلك. وستعوض هذه القيود في عقيدتها العسكرية عن طريق زيادة الاستفادة من التعاون الدولي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والأهم من ذلك، الحد من فرص الصراع المتاحة لخصومها.

ومع ذلك، فإن عواقب عدم الاستقرار يمكن أن تكون عميقة. ففي الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى إقامة علاقات مثمرة مع الحلفاء الإقليميين الجدد، لا ينبغي لها أن تضع الكثير من استراتيجيتها على مثل هذه العلاقات. يجب على إسرائيل أن تتعامل مع جيرانها، وهي تدرك أنه لا يوجد في أي منها هيكل نظامي دائم أو مستقر بالضرورة ، وإذا سقطوا فإن بدائلهم يمكن أن تكون أقل تعاوناً أو حتى عدائية. ففي الوقت الذي واجهت فيه إسرائيل ذات يوم تهديد الدول العربية القوية المعادية، فإن ضعف تلك الدول نفسها الآن يقوض الأمن الإسرائيلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى