بهدوء، تُقيّم شخصية مطّلعة المفاوضات غير المباشرة التي عُقدت في الناقورة بين لبنان والعدو الإسرائيلي بوساطة أميركية واستضافة أممية. تقول إن كل طرف عرض في الجولات التي عُقدت رؤيته للترسيم، لكن حتى اليوم لم يتمّ الدخول في مرحلة السعي لإيجاد حلول أو اتفاق. كما لم يتدخل الطرف الأميركي ولا الأممي في كل ما جرى، إلا بوصفهما شاهداً يتوجه له كل طرف بالحديث، على قاعدة أن التفاوض يتم بشكل غير مباشر، وهو ما يحصل فعلاً تحت سقف خيمة المفاوضات التي نُصبت في مقرّ الأمم المتحدة في الناقورة.
بالنتيجة، يتوقع المصدر مساراً طويلاً ومعقّداً لهذه المفاوضات التي «لم تبدأ بعد». أما خلاصة الجلسات الأربع، فيمكن اختصارها بسبع نقاط مختلف عليها بين الجانبين:
1 – طلب الوفد اللبناني اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة للبحار كمرجعية للتفاوض، وهو ما رفضه الوفد الإسرائيلي على قاعدة أن إسرائيل لم توقّع هذه الاتفاقية وهي غير ملزمة بقواعدها وأصولها.
2 – وافق الطرفان على اعتماد اتفاقية الترسيم التي وُقّعت بين الانتدابين البريطاني والفرنسي (1923)، إلا أن الخلاف برز في قراءة كل طرف لها، خصوصاً أنها لم تحدد النقاط الحدودية بدقّة. بالنسبة إلى البنان، فإن رأس الناقورة المشار إليه في الاتفاقية (نقطة الخلاف الأبرز) موجود داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالنسبة إلى الوفد الإسرائيلي، فإن عبارة «رأس الناقورة» الواردة في الاتفاقية تقع إلى الشمال من النقطة التي حدّدها الجانب اللبناني.
3 – يعتبر الوفد الاسرائيلي أنه من المستحيل أن يبدأ الترسيم من نقطة برية بل يجب أن ينطلق من البحر. حجته في ذلك أن الحدود البرية غير مرسّمة، وبالتالي لا يمكن اعتماد نقطة في حدود لم تثبّت بعد. المستحيل الإسرائيلي يقابله مستحيل لبناني، إذ لا يعقل أن يبدأ ترسيم لحدود بحرية إلا من البر. وبالتالي حتى لو كانت الحدود البرّية غير مرسّمة، يمكن الاتفاق على نقطة محددة يتم الانطلاق منها لترسيم الحدود البحرية، علماً أن الترسيم البرّي جزء من اتفاق الإطار الذي توصل إليه الرئيس نبيه بري، وبالتالي فور انتهاء ترسيم البحر يفترض أن يبدأ ترسيم البر.
4 – يتمسك الوفد الإسرائيلي بضرورة أخذ جزيرة «تيخليت» في الاعتبار لدى الترسيم، إلا أن الجانب اللبناني يرفض اعتبارها جزيرة في الأساس، خاصة أنها غير مأهولة، وهي بالكاد صخرة. وإضافة إلى اعتبار الوفد الإسرائيلي أن عدم وجود مقيمين على «تيخليت» لا يمنع أن تكون جزيرة، فهو يستشهد بالاتفاق اللبناني – القبرصي الذي أخذ تلك الجزيرة أو الصخرة في الاعتبار أثناء ترسيم الحدود بينهما. لا ينكر الوفد اللبناني ذلك، لكنه يُذكّر أن اتفاقية البحار تميّز بين الترسيم بين دولتين متقابلتين ودولتين متجاورتين، وبالتالي ما يجوز هنا ليس بالضرورة أن يجوز هناك.
5 – حتى مع افتراض الاتفاق على نقطة الانطلاق وحل مسألة «تيخليت»، فإنه لا اتفاق على التكنولوجيا المعتمدة لتحديد مسار الخط الحدودي البحري. علماً أن هذه العملية تتم عبر برامج إلكترونية محدّدة.
6 – لا يزال المفاوض الإسرائيلي متمسكاً بالاتفاقية الموقّعة بين لبنان وقبرص، بوصفها منطلقاً للترسيم البحري. وهو يشير إلى أنه طالما الطرف اللبناني سبق أن حدد منطقته الاقتصادية في الاتفاقية مع قبرص، فإنه من البديهي أن يكون ما هو خارجها من حصة إسرائيل. لكن الطرف اللبناني، رغم تأكيده أن الاتفاقية وُقّعت فعلاً من قبل الحكومة آنذاك، إلا أنه بموجب المادة ٥٢ من الدستور فإن أي معاهدة دولية بحاجة إلى تصديق مجلس النواب عليها، وهو ما لم يحصل. وبالتالي، فإن الحجة الإسرائيلية لا تقع في موقعها القانوني بالنسبة إلى البنان.
7 – آخر الإشكالات ذاك الذي افتعله وزير الطاقة الإسرائيلي. فوفد العدو يرأسه المدير العام للوزارة، وبالتالي فإنه مضطر للأخذ بتصريح مسؤوله المباشر، الذي قال إن لبنان غيّر رأيه سبع مرات.
صحيح أن الأداء اللبناني في ما يتعلق بالحدود البحرية كانت سمته الارتباك والارتجال، بدءاً من توقيع الاتفاقية مع قبرص، التي ساهمت في خسارة مساحة كبيرة من البحر اللبناني، وصولاً إلى الخط الذي أُودع في الأمم المتحدة، قبل أن ينطلق الوفد اللبناني من خط جديد. إلا أن الخط الأخير هو نقطة الانطلاق للبنان في مفاوضات الناقورة، وهو ما أكد عليه الرئيس ميشال عون. وبالتالي، فإن تقدم المفاوضات بشكل علمي هو الخيار الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى اتفاق، لا التهديد الذي تتولاه قيادة العدو وإعلامه. علماً أن مجرد اللجوء إلى مفاوضات يسمح بأن ينطلق لبنان من النقطة التي يريد، خصوصاً أنها لم توضع بشكل اعتباطي، بل إن الوفد المفاوض قادر على الدفاع عنها بالاعتماد على القواعد الدولية التي تحكم هذه المسائل. وهو ما بدا جلياً بالنسبة إلى الوفد الإسرائيلي كما بالنسبة إلى الوفدين الأميركي والأممي، اللذين أبديا إعجابهما بأداء الوفد اللبناني وطريقة إدارته للمفاوضات، وتمكّنه من الملف.

مع ذلك، وبعد انتهاء كل طرف من قول ما لديه على مدى أربع جولات بدا التباعد كبيراً، خصوصاً أنه ترافق مع تغريدات لم تساهم سوى في تعميق الخلاف. بخلاف ما تردد عن توقف المفاوضات، بحسب المصادر المطلعة، فإن هذا الشرخ أدّى إلى أن يقترح الوسيط الأميركي استبدال جولة 2 كانون الأول بالتواصل المباشر مع قيادة البلدين. ومرة جديدة سمع الوسيط كلاماً واضحاً من رئيس الجمهورية بأن الوفد اللبناني مزوّد بالتعليمات اللازمة، مبدياً إصراره على الموقف اللبناني الذي عُرض في الاجتماعات، والذي يخلص إلى إضافة نحو 1350 كلم مربعاً لمساحة الـ860 كلم مربعاً التي كان لبنان يطالب فيها أثناء السعي إلى اتفاق الإطار. لكن الأهم أن الوسيط الأميركي، إضافة إلى محاولته تليين المواقف تمهيداً لاستكمال المفاوضات، حمل معه سؤالاً محدّداً لرئيس الجمهورية ميشال عون: هل عدم ردكم على اقتراح وزير الطاقة الإسرائيلي إجراء مفاوضات سرية أو علنية في أوروبا يعني أن ثمة إمكانية للدخول في هكذا مفاوضات؟ خلفية السؤال ملاحظة الأميركيين أن رئاسة الجمهورية ردّت على وزير الطاقة الإسرائيلي في الشق المتعلق بالخطوط التي يعتمدها لبنان في المفاوضات فقط، من دون التطرق لاقتراح التفاوض المباشر. لكنّ الرئيس عون سرعان ما عاجل ضيفه بالتأكيد أن آلية التفاوض غير المباشر المعتمدة في الناقورة هي الآلية الوحيدة التي يتمسك بها لبنان.
بعد أن تأكد الوسيط الأميركي أن لبنان جاد ّفي المضي قدماً بالمفاوضات انطلاقاً من المعايير التي أرساها الوفد، انطلقت في إسرائيل حملة تشكك في جدية لبنان وتسوّق لانتهاء المفاوضات قبل أن تبدأ، ساعية إلى تحميل لبنان المسؤولية. مصادر مطلعة تؤكد أن المفاوضات مستمرة، لكنها حكماً ستتأثر بالمتغيّر الأميركي، الذي لم يُعرف بعد كيف سينعكس على ملف الترسيم. ولذلك يتوقع المصدر أن يُدعى إلى جلسة تُعقد في كانون الثاني ستكون مهمتها الوحيدة التأكيد على استمرار المفاوضات، على أن تبدأ المفاوضات الفعلية في شباط. ورغم أن التوقّعات تُرجّح بقاء الوسيط الأميركي السفير جون ديروشر في موقعه، إلا أن ذلك قد لا يسري على مسؤول الملف، أي مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر، انطلاقاً من أن هذا المنصب سياسي أكثر منه تقنياً.