تحقيقات - ملفات

من “لبنان أوّلاً”… إلى “جبران باسيل أوّلاً”

خيرالله خيرالله – أساس ميديا

في الطريق إلى سقوط بيروت، ومعها لبنان، وإيصالهما إلى ما وصلا إليه من إفلاس وبؤس على كل صعيد، كانت محطّة اغتيال جبران تويني، بكل ما يمثّله، محطة بارزة في هذا السياق. اغتيل جبران تويني قبل 15 عاما في الثاني عشر من كانون الاوّل 2005.

بعد مرور كلّ هذا الوقت، يتبيّن أنّ الهدف من اغتيال جبران تويني تحقّق، وإن جزئياً، وأنّ الشعارات التي كان ينادي بها، من بينها لبنان أوّلاً”، حلّ مكانها شعار آخر هو “جبران باسيل أوّلاً”.

يشير مثل هذا الشعار الذي يرفعه رئيس الجمهورية ميشال عون والذي يتسلّح به لمنع تشكيل حكومة اختصاصيين، إلى وجود جبران آخر. هذا الجبران الآخر هو جبران باسيل، الذي لا علاقة له بجبران تويني وصلابته ووطنيته ووقوفه في وجه أي صفقة على حساب لبنان وأبناء شعبه، مسلمين ومسيحيين، ومستقبل أبنائه.

تظلّ بيروت الرابط بين معظم الجرائم التي شهدها لبنان، إن في زمن الوصاية السورية أو في زمن الوصاية الإيرانية. كان جبران تويني رمزاً بيروتياً قبل أيّ شيء آخر. لذلك، كان مطلوباً التخلّص منه. بكلام أوضح، كان مطلوباً التخلّص من صحيفة “النهار” بكلّ ما مثلته وواكبته بيروتياً ولبنانياً وعربيّاً. عزاء جبران تويني هو أنّ  القاتل لم يحقّق كلّ ما طمح إليه. كان ذلك بفضل غسان تويني أوّلاً، هذا الكبير الذي عرف كيف يعضّ على جرحه، وبفضل ابنة جبران نايلة، التي استطاعت، إلى الآن، المحافظة على الإرث في ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد.

واكبت “النهار” صعود بيروت وارتبطت بالمدينة التي أعاد رفيق الحريري الحياة إليها. لذلك، كان طبيعياً انتقال مقرّ “النهار” إلى وسط بيروت وأن يحتلّ هذا المقرّ موقعاً بارزاً فيه. في النهاية، ترتبط المدن الكبرى بأسماء صحف كبرى. صحيفة “لوموند” تعني باريس و”نيويورك تايمز” تعني نيويورك. كذلك الأمر بالنسبة إلى العلاقة بين واشنطن و”واشنطن بوست”…

كان مفترضاً عودة الحياة إلى كلّ لبنان انطلاقاً من بيروت التي كان الإعلام ميزة من ميزاتها ورمزاً من رموز ازدهارها وتقدّمها وانفتاحها. لكنّ الأمور سارت في الاتجاه المعاكس… في اتجاه خنق بيروت تمهيداً لخنق لبنان. من بيروت يخنق لبنان ومن بيروت ينتعش لبنان وينمو ويزدهر.

في مثل هذه الأيّام، التي لا يزال فيها الأوادم يتذكرون جبران تويني، يعاني لبنان من فقدان الأمل، وذلك بعدما دفع “حزب الله” في اتجاه وصول ميشال عون إلى موقع الرئاسة، مع ما يعنيه ذلك من تحكّم جبران باسيل بقصر بعبدا تحت شعار مضحكٍ مبكٍ هو استعادة حقوق المسيحيين في لبنان. هل لا تزال هناك حقوق للمسيحيين بعد انهيار النظام المصرفي اللبناني وفي ضوء تفجير مرفأ بيروت وفي وقت هناك من يعتقد أنّ مثل هذه الحقوق يمكن أن تُستعاد بفضل سلاح “حزب الله”؟

كان اغتيال جبران تويني اغتيالاً للأمل الذي ولد من إعادة إعمار بيروت وعودة الحياة إليها وتحولّها مجدداً إلى مدينة يطمح كلّ عربي أو أجنبي إلى زيارتها أو الإقامة فيها. لم يحدث شيء بالصدفة في لبنان منذ محاولة اغتيال مروان حمادة في اول تشرين الأول 2004 وصولاً إلى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، في مقدّمهم باسل فليحان، ثم اغتيال كلّ من سمير قصير وجورج حاوي ووليد عيدو ووسام عيد وأنطوان غانم وبيار أمين الجميّل ووسام الحسن… وصولاً إلى اغتيال محمّد شطح.

الأكيد أنّه لا يمكن تجاهل الشهيدين الحيين مي شدياق والياس المرّ. والأكيد أيضاً أنّ المطلوب كان القتل من أجل نقل لبنان إلى مكان آخر… أي إلى حيث هو الآن. هذا كلّ ما في الأمر. كان مطلوباً تمهيد الطريق للوصول إلى مكان لا تتشكًل فيه حكومة، بل يصبح تشكيل مثل هذه الحكومة قراراً إيرانياً يستند إلى ذرائع لبنانية تافهة. من بين هذه الذرائع الثلث المعطّل لجبران باسيل كي يثبت أنّه لا يزال حيّاً يرزق سياسياً ويدافع عن حقوق المسيحيين في حين أنّه لا يمكن أن تقوم له قيامة، سياسياً، بعد العقوبات الأميركية التي طالته.

كان جبران تويني بعيد النظر. عرف كيف يرفع سقف الموقف السياسي عبر “النهار”. فهم باكراً معنى انتقال لبنان من الوصاية السورية، التي قاومها، وقد تصدّى لبشّار الأسد بالاسم… إلى الوصاية الإيرانية.

كان فقدان جبران تويني خسارة كبيرة للبنان، بل خسارة لا تعوّض من زاوية ارتباط جبران بالدور الإعلامي للبنان وبيروت بالذات. كلما ابتعدت الذكرى، صارت الأمور أكثر وضوحاً. الدليل على ذلك غياب الصوت المسيحي الذي يتحدّث بلغة تجمع بين هموم اللبنانيين جميعاً بغض النظر عن طائفتهم ومذهبهم ومنطقتهم.

لم يعد هناك من يقول، من موقع مسيحي، إنّ المؤامرة على السنّة في لبنان ليست في دعوة رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب إلى الإدلاء بشهادته في تفجير مرفأ بيروت. المؤامرة على السنّة وعلى لبنان كلّه هي في وجود شخص مثل حسّان دياب في موقع رئيس مجلس الوزراء. المؤامرة في غياب من يقول لفريق رئيس الجمهورية إنّ الوقت ليس وقت تصفية الحسابات مع أهل السنّة في لبنان، بل هو وقت الاستعانة بتحقيق دولي لكشف حقيقة تفجير مرفأ بيروت ولماذا لم يتحرّك رئيس الجمهورية بعد إبلاغه قبل أسبوعين من حدوث الانفجار أنّ هناك كمّيات من نيترات الأمونيوم مخزّنة في أحد مستودعات المرفأ.

لم يعد من مكان سوى لليأس في بلد أضاع كلّ الفرص التي أُتيحت له وآخرها فرصة العودة إلى خريطة الشرق الأوسط، وهي فرصة صنعها رفيق الحريري ولا أحد غيره، وصولاً إلى فرصة تشكيل حكومة اختصاصيين في السنة 2020.

إنّها فرص ضائعة يختزلها الانتقال من “لبنان أوّلاَ”… إلى “جبران باسيل أوّلاَ”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى