قد تكون الخلاصة الأساسية لخطاب الرئيس سعد الحريري، أن لا حكومة في الأمد المنظور. ولأن الخرق يبدو مستحيلاً حالياً، فيما تزداد الأوضاع الداخلية تدهوراً، يمكن قراءة ما انتهى إليه كلام الحريري حين كشف بوضوح جانباً من المشهدية الحريرية الموجهة في 14 شباط. وكذلك كشف جزءاً من الترهّل – الفضيحة الذي تعاني منه استراتيجية التيار الوطني الحر في تأليف الحكومة.
أظهر الحريري أنه ليس مستعداً للاعتذار عن عدم تأليف الحكومة. وهذا الاعتذار كان ولا يزال يشكل مقصد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في رغبتهما الواحدة في دفع رئيس الحكومة المكلف الى التنحي. في التسجيل المصوَّر الذي سُرِّب لكلام عون عن الحريري وصفه بالكذاب، وفي كلام الحريري كاد يستعمل الكلمة ذاتها في صورة غير مباشرة. وبقدر ما سعّر الخطاب السجال بينهما في انتظار ردّ باسيل المفصّل في «عظة الأحد»، فإن الطرفين باتا يجاهران على الملأ بعبارات واضحة عن عدم ثقة أحدهما بالآخر واطمئنانه إليه. فأي حكومة يمكن أن تخرج من رحم هذا المشهد الذي يذكّر بخلاف الرئيس إميل لحود والرئيس رفيق الحريري، حتى لو فرضت تسوية ما باتفاق خارجي، مع إضافة حضور باسيل الطاغي فيه.
يلعب الحريري على عامل الوقت، لأن مرور أشهر من دون حكومة يعني أن العهد وباسيل يراكمان خسائرهما، في ظل ارتفاع مستوى الانهيار الداخلي، ما يسهم في الضغط عليهما للقبول بما هو معروض. وهو يعتقد أن عدم تأليف حكومة حالياً أفضل من تأليف حكومة لباسيل فيها حصة الثلث المعطل، قبل أن يتضح موقف الادارة الاميركية الجديدة من لبنان. وهو كان حاسماً في القول إنه مستمر في جولاته الخارجية، من دون التوقف عند مردود وجود حكومة تصريف أعمال. لا بل إنه ضاعف في إظهار حجم اتصالاته الدولية ولقاءاته مقابل عزلة العهد إقليمياً ودولياً. لكن رهان الحريري الأقوى يبقى على حزب الله. يثق الحريري بأن الحزب لن يتخلى عنه (ولو أنه يوازن بينه وبين حليفه رئيس الجمهورية، الى حين موعد الفصل)، وأن تسويتهما قائمة، وأن خطاب الامين العام للحزب اليوم لن يستهدفه. والمصادفة أن الحريري ركّز هجومه ضدّ التيار في ذكرى 14 شباط، كما صبّه سابقاً في المناسبة ذاتها ضد القوات اللبنانية.
يدرك الحريري أن الحزب قادر على الضغط على باسيل، لكن الحزب غير مستعد بعد للتسوية الحكومية في انتظار ترتيب إقليمي ودولي، وهذا يعني أن هامش المناورة في يده لا يزال مسموحاً، فلا يضغط لتحديد موعد الاستحقاق. وفق هذا المسار، يصبح لافتاً استخدام الحريري كلمة «العد»، وقد سبق أن استخدمها بهاء الحريري قبل مدة أيضاً. فوقف العد، هي العبارة التي استخدمها الرئيس رفيق الحريري، في وجه المسيحيين، ليس من باب تأكيد احترام المناصفة، بعدما فعل التجنيس فعله المؤذي في التوازن وفي هويات مناطق لبنانية. والمصادفة أن يستخدمها الحريري بإيحاء من «مجموعة الذميين» المحيطين به، في ذكرى 14 شباط، التي لم تتحول، في السنوات التالية لاغتيال الحريري، الى تظاهرات في ساحة الشهداء الا بضغط من القوى المسيحية على اختلافها ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ولولا هؤلاء لكان تيار المستقبل لا يزال يرفع شعار النائبة بهية الحريري: «لن نقول وداعاً سوريا بل الى اللقاء». يذهب الحريري الى رفع سقف المواجهة مع رئيس الجمهورية من دون قفازات، وهو في تسريبه المتعمد لائحة عون، كان يحاول تصويب السجال نحو نقطة أخرى تلحق الأضرار بالتيار. فيكاد الطرفان يتباريان في فشل معركتيهما لتأليف الحكومة والاستعاضة عنها بمعارك جانبية.

لم تعد النقطة المحورية الصلاحيات الدستورية. لأن مشكلة التيار تبقى أولاً وآخراً في كيفية استخدام هذه الصلاحيات. فأن يكون رئيس الجمهورية يستخدم صلاحياته ليكون شريكاً كاملاً في عملية التأليف أمر يُدافع عنه ومطروح للنقاش السياسي منذ الطائف الى اليوم. لكن أن تكون عملية التأليف مبنية، بعد مخاض أشهر، على لائحة تضم خليطاً عجيباً من الأسماء المستوزرة، وبعضها القليل الجيد لا يمكن هضم وجوده على طاولة مجلس الوزراء مع آخرين مقترحين، فأمر يدعو الى مراجعة استراتيجية التيار القائمة منذ سنوات على اختيار لائحة أسماء عشوائية، من دون الأخذ في الاعتبار الكفاءة والمهنية. هكذا حصل في التعيينات الديبلوماسية، ومحاولات إجراء تعيينات عسكرية، واختيار جزء من النواب والوزراء السابقين والمقترحين. والأمر نفسه مرشح لأن يحصل في الانتخابات النيابية الفرعية، أو العادية العام المقبل. ومشكلة الاسماء، التي اعتُبر بعضها سابقاً على سبيل النكتة، ليس في ما يقوله الحريري من أنه لا يريد وزراء يتصلون برئيس حزبهم لمعرفة رأيه في ما يعرض على مجلس الوزراء، لأن وزراء «المستقبل» ليسوا أفضل حالاً، وكل الاحزاب سواسية، بل في النموذج الذي يقدمه التيار، بعد كل معركة تتعلق بالصلاحيات وبحقوق المسيحيين والثلث الضامن، وتعطيل الحكومة أشهراً كي يأتي بوزراء اختصاصيين نموذجيين. فهل بهذه الاسماء يحترم الدستور، في حكومة العهد التي تُعدّ للانتخابات النيابية وتناقش الخطط المالية وإيجاد حلول للانهيار المالي والكهرباء وغيرهما من الأزمات الحادة؟ وهل بهذه اللائحة الوزارية، كما إحكام السيطرة على مفاصل القصر الجمهوري استعداداً لمرحلة حساسة، يخوض التيار معركة الصلاحيات وحقوق المسيحيين؟ ليست المرة الاولى التي تنتهي معركة دستورية محقّة، على أبواب مصالح التيار… ولن تكون الأخيرة.