أمس، نفّذ عناصر من الضابطة البيطرية في وزارة الزراعة وعناصر من جهاز أمن الدولة جولات على مزارع المواشي في محافظات جبل لبنان والبقاع وبعلبك ــــ الهرمل، بعد شكاوى عن احتكارٍ يمارسه بعض تجار ومستوردي المواشي. كانت جولات مفاجئة، أرادت منها الوزارة «مطابقة حسابات» الواقع على الملفات المقدمة من قبل المستوردين والتجار، وتحديداً الكبار منهم، إلى الوزارة. ولئن كان من المبكر الحكم على تلك الجولات، بانتظار ما ستؤول إليه النتائج، إلا أن واقع الناس يشي بما يحدث منذ أيام.
ثمة شكوى مما يحدث في القطاع، وهذه المرة مزدوجة: شكوى المواطنين من الارتفاع المتجدّد في أسعار اللحوم وعدم توافرها في كل الأماكن من جهة، وشكوى أصحاب الملاحم من الشح في المواشي وحتى من اللحوم التي يشترونها من أسواق الجملة. ولئن كانت هذه الأزمة غير طارئة، وعمرها من عمر آلية الاستيراد التي فرضها المصرف المركزي، إلا أن ما يجري اليوم ينذر بأن الآتي أعظم، مع إقرار الجميع بأن هناك مشكلة في القطاع. وهي مشكلة تتوزع أسبابها، وإن كان يأتي على رأسها المعاملات «المحتجزة» في المصرف المركزي، على ما يقول المستوردون وأصحاب المزارع ومصادر وزارة الاقتصاد، مشيرة إلى أن «المشكلة اليوم تكمن في تأخر المعاملات في مصرف لبنان وليس في الوزارات المعنية». الأزمة تأتي على الشكل الآتي: «نأخذ الموافقات من وزارة الزراعة ومن ثم الاقتصاد ومن المصرف التجاري، ثم تذهب المعاملة إلى مصرف لبنان حيث تنام لأكثر من شهر»، يقول رئيس نقابة تجار اللحوم في لبنان، عبد الغني الملاح. ويضيف إن البواخر تأتي إلى مرفأ بيروت ولا تخرج المعاملة من المركزي، متسائلاً: «هل هذه هي فاتحة رفع الدعم؟».
هذه الأسباب دفعت بهؤلاء الى سلوك طريق الضغط مع الدولة، من خلال إبقاء المواشي في المزارع وعدم بيعها خوفاً من الخسارة، جراء فارق السعر بين «الدولار المدعوم» ودولار السوق السوداء. يقول هؤلاء إن المعاملة عندما تصل إلى مصرف لبنان «عم نبوس الأيادي وما عم يطلع بإيدنا». أحدهم يقول إن «المركزي» احتجز معاملته شهراً ونصف شهر، رغم «إنو واسطتي بتفلق الصخر». لهذا السبب، وجد هؤلاء الحل في الإبقاء على المواشي في مزارعهم، إلى أن تتحول الأموال إلى الخارج ليتمكنوا من «طلب الشحنة التالية». وتتمدد الشكوى لتطال الوزارتين المعنيتين: الزراعة والاقتصاد، فالأولى وإن كانت محكومة بمبلغ الدعم «إلا أن الحصص في بعض الأحيان تظلم التجار الصغار»، على ما يقول أحد المستوردين، انطلاقاً من أنها «تأخذ في الاعتبار ما كانت عليه مستورداتنا قبل 3 سنوات، وهو ما لا يعكس الأمور بدقة وخصوصاً أن ما كنا عليه قبل تلك المدة ليس كما كنا عليه العام الماضي قبل الأزمة». وفي وزارة الاقتصاد «لا أعرف ما الذي يستوجب بقاء المعاملة 20 يوماً من أجل توقيع واحد».

لذلك، اختار هؤلاء المواجهة مع الدولة، فكان أن أوقعوا في طريقهم متضررين، هم في المقام الأول المواطنون وصغار التجار وأصحاب الملاحم الذين لا يملكون مزارع خاصة بهم. صحيح أن آلية مصرف لبنان جزء أساسي من الأسباب، سواء في قطاع اللحوم أو في غيره، إلا أن ثمة مستفيدين منها، وهم في غالبيتهم من كبار التجار والمستوردين الذين يتحكمون بسوقٍ كاملٍ وبلقمة عيش المواطنين. فما إن يقرر هؤلاء قطع «الإمدادات» حتى تبدأ ملامح الانقطاع في السوق بالنقص في اللحوم أو ارتفاع أسعارها. وهو ما يلمسه الناس يومياً، سواء في تحليق أسعار بعض أنواع اللحوم لتصل إلى 60 ألف ليرة للحم البقر و100 ألف للحم الغنم من جهة، واختلاف الأسعار تالياً من مكانٍ إلى آخر، فبات الوضع على شاكلة «حارة كل من إيدو إلو». فهل تحمل الدولة وحدها هذه المسؤولية؟
ما يحدث اليوم أن المسؤولية مشتركة بين الدولة والتجار. هذا ما تقوله مصادر وزارة الزراعة وبعض التجار. فوزارة الزراعة تدرك جيداً أن الشكاوى التي وصلت إليها عن امتناع بعض أصحاب المزارع عن تسليم المواشي لم يأت من فراغ، لذلك قامت بجولاتها المفاجئة أمس، لمطابقة «الحسابات». أما التجار الذين يعتبرون أنفسهم مظلومين من الدولة ومن التجار الكبار، فيتحدثون «عن احتكارات في هذا القطاع مثلها مثل الاحتكارات في باقي القطاعات، حيث يستولي عدد من التجار على الجزء الوافر هنا، وهم معروفون بالأسماء، ومن الطبيعي عندما يمتنع هؤلاء عن التسليم أن نشهد أزمة». مع ذلك، لا حلول يمكن أن تعيد الأمور إلى نصابها «في ظل وجود تلك الاحتكارات»… والأمل اليوم على المداهمات «فلربّما تهزّ العصا»!