أخبار عاجلة

وقائع 14 يوما من خطف “حزب الله” طائرة “TWA” الأميركية عام 1985


وقائع 14 يوما من خطف “حزب الله” طائرة “TWA” الأميركية عام 1985

وضعت الولايات المتحدة مكافأة قيمتها خمسة ملايين دولار للإدلاء بمعلومات عن العناصر المشاركة في هذه العملية

 

تولى “حزب الله” منذ عام 1982 مهمة الاشتباك المفتوح مع الولايات المتحدة (غيتي)

في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1983، تم تفجير مقر القوات البحرية الأميركية، المارينز، قرب مطار بيروت، وقد سقط فيه 241 جندياً أميركياً، جاءوا في مهمة لمساعدة الجيش اللبناني في حفظ الأمن بعد الاجتياح الإسرائيلي. في العادة، لا تنسى الولايات المتحدة هذه الذكرى وتحييها كل عام. ولكن اللافت هذا العام كان، أن وزارة الخارجية الأميركية وضعت مكافأة قيمتها خمسة ملايين دولار للإدلاء بمعلومات عن عناصر “حزب الله”، الذين تتهمهم بأنهم كانوا وراء عملية خطف طائرة TWA الأميركية في 14 يونيو (حزيران) 1985، التي أرادوا من خلالها إذلال واشنطن وكانوا في حرب مفتوحة معها منذ انتصار الثورة في إيران.
ليست المرة الأولى التي تضع فيها الولايات المتحدة جائزة من هذا النوع تتعلق بهؤلاء المتهمين. في عام 2001، حدد الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، جائزة مماثلة لكل من يدلي بمعلومات تتعلق بالذين شاركوا في عملية خطف الطائرة، وسمت منهم عماد مغنية، ومحمد علي حمادة، وعلي عطوي، وحسن عز الدين. ولكن بعد اغتيال مغنية في عملية تفجير أمنية في العاصمة السورية دمشق، عام 2008، بقيت أسماء الثلاثة الآخرين على لائحة الملاحقة والعقوبات الأميركية، على قاعدة أن واشنطن لن تنسى ولن تسامح.

وقد انتقلت واشنطن من التهديد إلى الفعل مع تنفيذ عملية اغتيال اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، في بغداد ليل الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020. هذه العملية أتت ضمن سياق إستراتيجية قال عنها وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو، “لا يكفي أن تمتلك القوة للردع، بل أن تُفهِم عدوك أنك لا تتردد في استخدامها أيضاً”.
الاشتباك المفتوح
منذ عام 1982، تولى “حزب الله” في لبنان مهمة الاشتباك المفتوح مع الولايات المتحدة قبل أن يحمل علناً هذا الاسم وبعده. وكان الهدف طرد أميركا من لبنان، بكل ما تمثله من وجود سياسي وعسكري. وقد عمل “حزب الله” لتحقيق هذا الهدف بكل الوسائل التي كانت متاحة له، من عمليات الخطف إلى القتل والتفجير.
هذه العمليات كانت تتم تحت أسماء مستعارة منها “حركة الجهاد الإسلامي”. لكن ما كان يحصل بطريقة سرية، يبقى معها المنفذ مجهولاً، ومن دون أن تتبنى أي جهة معلومة العملية، تبدّل مع عملية خطف طائرة TWA الأميركية إلى مطار بيروت في 14 يونيو 1985. كانت تلك العملية تحولاً كبيراً في مسار عمليات “حزب الله” وفي مسلسل الاشتباك الشامل مع الولايات المتحدة. كان الحزب يريد ربما أن يعلن عن نفسه بهذه الطريقة الاستعراضية، التي تمت بها عملية الخطف. كان مطار بيروت مستباحاً وقتها، وقد حصلت فيه أكثر من عملية خطف للطائرات. لكن هذه العملية كانت الأهم، وربما الأشهر في العالم كله.
قبل يومين من هذه العملية، كانت عناصر تابعة لحركة “أمل” خطفت طائرة تابعة لشركة عالية الأردنية، للمطالبة بكشف مصير الإمام موسى الصدر، المخطوف في ليبيا منذ آخر أغسطس (آب) 1978. وكانت “أمل” برئاسة نبيه بري تسيطر عملياً على بيروت الغربية والضاحية الجنوبية، بينما كان الحزب لا يزال قوة صاعدة يزاحمها على النفوذ. عملية خطف طائرة الـTWA جاءت لتعلن أن “حزب الله” بات الأقوى على الأرض وفي الجو، خصوصاً أنه تم التخطيط لها بدقة، ولم تتناول مسألة الإمام الصدر بل المعتقلين في السجون الإسرائيلية من لبنانيين وفلسطينيين وبعض السجون الأوروبية والعربية. والعملية كانت نقلة نوعية، لأنها كانت علنية واستمرت 16 يوماً، وتم خلالها التقاط صور للخاطفين مع طاقم الطائرة.
من أثينا إلى بيروت
بدأت هذه العملية في مطار أثينا وانتهت في مطار بيروت، وأُطلق الرهائن الأميركيون بعد نقلهم إلى دمشق، وقد التزمت إسرائيل إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين في سجونها. وفي حين كانت واشنطن عاجزة عن القيام بأي عملية إنقاذ، اضطرت أن تطلب من إسرائيل التجاوب، ومكنت سوريا من لعب دور الوسيط، بينما اكتفت عملياً بفرض الحظر على حركة الطيران إلى مطار بيروت.
كيف حصلت تلك العملية؟ كيف بدأت؟ وكيف انتهت على أرض المطار؟
صباح 14 يونيو 1985، أقلعت طائرة بوينغ 727، تابعة لشركة TWA الأميركية، في رحلة عادية رقمها 847 من مطار أثينا إلى روما، على متنها 145 راكباً، إضافة إلى الطاقم المؤلف من ثمانية أشخاص. وما كادت تبلغ الأجواء حتى سيطر عليها مسلحان وطلبا من قائدها التوجه إلى مطار بيروت.
حدثان متوازيان كانا يحصلان في مطاري بيروت وأثينا:
الساعة 10.40 صباحاً بتوقيت بيروت، تبلغ برج المراقبة في المطار الأنباء الأولى عن عملية الخطف التي نفذها “أصوليون إسلاميون”، من دون معرفة تفاصيل أخرى. وزير الأشغال العامة والنقل وليد جنبلاط أوعز على الفور إلى سلطات المطار بمنعها من الهبوط، فوضعت العوائق على المدارج.
في مطار أثينا، أثارت تصرفات أحد المسافرين شبهات رجال الأمن. أصر الرجل على حجز مقعد على متن الرحلة 847 بين أثينا وروما في أي شكل كان، وبأي ثمن. أُوقف، وبعد التحقيق معه تبين أنه لبناني ويدعى علي عطوي، عمره 21 سنة، يعمل في صيانة مكيفات الهواء، وعُثر معه على جوازي سفر مزورين، الأول لبناني باسم حليم رستم، والثاني مغربي باسم عمر مسلّم. اعترف بأنه من “منظمة الجهاد الإسلامي”، وأن رفيقين له هما أحمد غربية، وعلي يونس خطفا الطائرة، وأنه لم يستطع أن يكون معهما، لأنه لم يكن لديه حجز على رحلة الطائرة. طبعاً كان يعطي اسمين وهميين لرفيقيه.
وقال عطوي إن عملية الخطف تستهدف الضغط على إسرائيل، لإطلاق المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين في سجن عتليت، وأن رفيقيه وصلا إلى أثينا من بيروت يوم الخميس (قبل العملية بيوم واحد)، وانتظرا على لائحة الترانزيت كل هذا الوقت ليركبا الطائرة، وأنهما استطاعا إدخال مسدس من عيار 9 ملم وقنبلتين يدويتين إلى الطائرة، وأخفيت هذه الأسلحة في كيس نايلون بعد تغليفها بمادة الفيبرغلاس.
هذه الاعترافات جاءت متأخرة. الطائرة أصبحت في الجو والعملية بدأت، والسلطات اليونانية لم تعد تستطيع أن تفعل شيئاً، إلا انتظار مطالب الخاطفين. لا شك في أن القضية كبيرة، فهم يعرفون أن من بين ركاب الطائرة أميركيين كثر.
الساعة 11.53، دخلت الطائرة الأجواء اللبنانية وسط رفض رسمي لهبوطها، يقابله انتشار مسلح في محيط المطار للسماح لها بالهبوط. طلب قائدها التزود بالوقود. حلقت بعض الوقت فوق المطار، حتى تراجعت السلطات اللبنانية عن قرارها، وأزيلت العوائق وهبطت الطائرة بسلام.
صعد المسؤولون عن الأمن في المطار إلى برج المراقبة للتفاوض في شأن المطالب، وكان معهم مسؤولون من حركة “أمل”. بدأ الخاطفان اللذان كانا في حال هستيرية بضرب الركاب، وكان الموجودون في برج المراقبة يسمعون صراخهم عبر أجهزة الاتصال، فيما دخل عدد من المسلحين إلى حرم المطار، وانضم نحو عشرة منهم إلى الخاطفين لتعزيز وضعهما، وتعزيز العملية والتشدد في فرض الشروط.
بعد ذلك، طلبوا التزود بالوقود الساعة 12.30 ولُبي طلبهم. وخلال إنجاز هذا العمل، أُطلق سراح 17 امرأة أميركية وطفلتين. ثم طلب أحد الخاطفين، وقد سمى نفسه “ناصر”، التحدث إلى مسؤول حركة “أمل” وتلا البيان رقم 1، وطالب بإطلاق جميع المحتجزين في السجون الإسرائيلية.
الساعة 13.30، كانت الطائرة تقلع من مطار بيروت، لتهبط في مطار هوّاري بومدين في الجزائر بعد أربع ساعات من الطيران. طلب الخاطفون حضور السفير الأميركي في الجزائر مايكل نيولن إلى المطار، فحضر وأبلغوه مطالبهم. بقيت الطائرة خمس ساعات، أطلق خلالها 22 راكباً، هم 18 امرأة أميركية وطفل أميركي وامرأة يونانية وتونسي وسوداني. وعند الساعة 10.15 ليلاً كانت تقلع مجدداً باتجاه مطار بيروت.
السلطات اللبنانية ممثلة بوزيري الأشغال العامة والداخلية (وليد جنبلاط وعبدالله الراسي)، اتخذت قراراً بعدم السماح لها بالهبوط مرة ثانية، ووضعت عوائق على المدارج. حلقت الطائرة فوق المطار، فيما كانت العناصر المسلحة تنتشر في محيطه وتدخل إليه. قائدها أبلغ برج المراقبة، “الوقود لا يكفي إلا لمدة تسع دقائق”. السلطات المختصة تركت لسلطات المطار حرية التصرف من الناحية الفنية، وسمحت بالهبوط. دخل مسلحون إلى المدرج الغربي وأزالوا العوائق. الساعة 2.30 فجر 15 يونيو، هبطت الطائرة للمرة الثانية في مطار بيروت.
الساعة 2.55، تحركت من المدرج الغربي إلى باحة المطار لجهة المدرج الشرقي وبدأ حوار بين الخاطفين ومندوب حركة “أمل” في المطار بسام طليس. طلب المتحدث باسمهم من طليس الحضور إلى الطائرة، مهدداً بقتل راكب أميركي إذا لم يحضر. وبالفعل، وبعد وقت قصير سُمع طلق ناري، وأعلن الخاطف قتل راكب أميركي رُميت جثته من باب الطائرة على أرض المدرج. على الأثر، توجه طليس مع مسؤول آخر من حركة “أمل” إلى الطائرة بواسطة سيارة جيب صفراء وصعدا إليها.
الساعة 3.55، طلب قائد الطائرة تزويدها بالماء والطعام والوقود فوراً، وكرر المتحدث باسم الخاطفين الطلب الساعة 4.05، كما طلب أن تنقل سيارة تابعة للصليب الأحمر الجثة من أرض المطار. برج المراقبة سأل عن عدد الأشخاص ليتم تحديد عدد وجبات الطعام اللازم إرسالها، جاءه الجواب 150، ولكن الطلب تغير. يجب تزويد الطائرة بالوقود قبل إحضار الطعام.
الساعة 4.10، نقلت سيارة إسعاف الأميركي القتيل إلى مستشفى الجامعة الأميركية في العاصمة. وتبين أنه جندي في “المارينز” يُدعى روبرت ستيثيم. الساعة 4.45  زُودت الطائرة بالوقود، وبعد ربع ساعة بالماء والطعام والفاكهة، كما طلب الخاطفون لاحقاً. في هذا الوقت، كانت السلطات اليونانية أعلنت اعتقال عطوي في مطار أثينا، وأعربت عن اعتقادها أن الأسلحة ربما أدخلت إلى الطائرة في مطار القاهرة. واهتزت الولايات المتحدة، واستنفرت أجهزتها الأمنية والعسكرية وطاقاتها الدبلوماسية لمعالجة المشكلة التي تواجهها، وبدأت الاتصالات مع كل من إسرائيل وسوريا.
الساعة 5.30 فجراً، كان الخاطفون يذيعون البيان رقم 2 من مطار بيروت، وإضافة إلى طلب إطلاق المعتقلين من سجن “عتليت”، فرضوا شروطاً جديدة لإنهاء العملية، انسحاب إسرائيل من الجنوب، وإطلاق عطوي من اليونان، وإلا يقتل الركاب اليونانيون، وإطلاق اللبناني عارف ريا المعتقل في قبرص، ومعرفة مصير نعمة شريف هاشم الذي اعتقلته إسرائيل في الزرارية في جنوب لبنان، ومصير طوني أبي غانم، الذي اعتُقل على معبر باتر المؤدي إلى الحزام الأمني شمال إسرائيل، وإطلاق اللبنانيين مصطفى علي خليل ومحمد خير عباس رحال، المعتقلين في إسبانيا بتهمة قتل الدبلوماسي الليبي محمد أحمد إدريس وإطلاق المعتقلين في الكويت.
الساعة 5.45 أقلعت الطائرة مجدداً باتجاه الجزائر، وبعد نحو أربع ساعات حطت للمرة الثانية في مطار هوّاري بومدين. رضخت اليونان لمطالب الخاطفين وأطلقت عطوي، ونقلته طائرة خاصة يونانية إلى مطار بومدين، حيث انضم إلى رفاقه في الطائرة المخطوفة. في المقابل، وفى الخاطفون بوعدهم وأطلقوا 63 راكباً يونانياً على دفعات.
السلطات القبرصية رضخت أيضاً ووافقت على إطلاق ريا الذي نقلته طائرة خاصة إلى العاصمة السورية، كما طلب الخاطفون الذين تجاوبوا وأطلقوا الساعة 9.30 ليلاً عشر رهائن، ولم يبق على الطائرة سوى الركاب الأميركيين وعددهم 32، إضافة إلى الطاقم.
في لبنان، كان الوضع مأساوياً. في الولايات المتحدة، لم يكن الوضع أفضل، فعلى الرغم من كل ما تتمتع به من قوة، كانت عاجزة أيضاً حيال هذه القضية وكان عدد جديد من الرهائن يضاف إلى لائحة رهائنها المحتجزين في لبنان. كانت الولايات المتحدة محتجزة كلها في الطائرة. تحرك القرار الأميركي على مستويين، الأول، عرض قوة لتهديد الخاطفين ومنعهم من قتل مزيد من الأميركيين، ولهذه الغاية أرسلت قوة من “المارينز” باتجاه المياه الإقليمية اللبنانية. وأعلنت حال الاستنفار في بعض قوات التدخل السريع المدربة على إطلاق الرهائن. الثاني، الاتصال بالحكومة الإسرائيلية لمعرفة مدى تجاوبها مع مطلب الخاطفين بإطلاق المعتقلين لديها في سجن “عتليت”. وعلى الخط نفسه، كان لا بد من الاتصال بسوريا لتلعب دور الوسيط مع الخاطفين. إسرائيل تتعهد لأميركا إطلاق سراح المعتقلين. أميركا تتعهد لسوريا. سوريا تتعهد للخاطفين وتضمن إنهاء العملية.
في اليوم الثالث، 16 يونيو، عادت الطائرة المخطوفة من الجزائر إلى بيروت وهبطت على المدرج الغربي. الساعة 14.50، وعلى مهل، تحركت وتوقفت في نهاية المدرج لجهة بلدة الشويفات. تلا قائد الخاطفين بياناً جدد فيه مطالبه، وتدخل رئيس حركة “أمل”، وزير العدل والموارد المائية والكهربائية حينها، المحامي نبيه بري وسيطاً مع الخاطفين، وطلب عدم إيذاء الرهائن بينما تدفق عدد كبير من المسلحين إلى باحات المطار ومدارجه، ومن دون أي رادع تحركوا بحرية من الطائرة وإليها.
عقد الوزير بري اجتماعاً سياسياً وأمنياً في منزله في محلة بربور في بيروت الغربية، حضره مسؤولون أمنيون رسميون وحزبيون، تركز البحث فيه على مطالب الخاطفين وسبل إنهاء العملية. وتبنى المجتمعون المطالب الخاصة بإطلاق المعتقلين في سجن “عتليت” الإسرائيلي وفي إسبانيا، في ما بدا أنه محاولة لدعم هذه المطالب، وحصر العملية من ضمنها لأن فيها تحقيقاً لرغبات الأطراف المجتمعة.
الساعة 20.10 ، طلب الخاطفون إرسال سيارة إسعاف إلى الطائرة لنقل مريض في حال طارئة. بعد عشر دقائق لُبي طلبهم ونقلت سيارة إسعاف الأميركي بيل سينيور إلى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات ودائماً برفقة مسلحين. والساعة 20.25 ، وفي خطوة اعتبرت مؤشراً الى أن الطائرة ستمضي ليلتها في بيروت، طلب الخاطفون سيارة “فيلومي” لجر الطائرة إلى مكان آخر في المدرج تحسباً لاحتمال تعرضها لأي عملية كوماندوس. والساعة 20.50  كانت سيارة “الفيلومي” تنجز عملية نقل الطائرة إلى باحة المطار قرب مركز الإطفاء.
بدا أن العملية دخلت مرحلة المفاوضات. وفي الوقت نفسه كانت الأجواء المشحونة تتصاعد. معلومات كثيرة تحدثت عن احتمال تنفيذ قوات التدخل السريع الأميركية عملية خاطفة لإنقاذ الرهائن. ونحو منتصف الليل تعزز هذا الاعتقاد، عندما حُكي عن تحليق طوافات أميركية وإسرائيلية فوق الجنوب والبحر. هذا الأمر عجل في اتخاذ قرارين:
– نبيه بري أعلن الاستنفار في صفوف حركة “أمل” التي نصبت حواجز في محيط المطار، ومنعت الدخول إليه إلا للمسافرين والموظفين.
– نقل الرهائن من الطائرة وتوزيعهم على أماكن متفرقة في الضاحية الجنوبية، وذلك لإسقاط أي محاولة لإنقاذهم على أرض المطار، بالتالي إخضاع الولايات المتحدة للشروط الموضوعة.
كان الوضع على الأرض يسمح بكل ذلك. المسلحون ينتقلون من المطار وإليه بكل حرية. الخاطفون يتبادلون دوامات الحراسة في الطائرة. يزورون أهلهم في الضاحية للاطمئنان والبعض زاره أهله.
مضت الليلة على خير ولم تحصل أي عملية، وطرأ تطور مهم على صعيد المعالجة. إسبانيا رفضت الخضوع لمطالب الخاطفين، واتصل في المقابل مستشار الأمن القومي للرئيس رونالد ريغان، روبرت ماكفرلين، برئيس حركة “أمل” نبيه بري طالباً المساعدة في إطلاق الرهائن وإنهاء العملية.
إزاء ذلك، أعلن بري تبنيه مطالب الخاطفين بالنسبة إلى سجناء “عتليت” فقط، أما اللبنانيان المعتقلان في إسبانيا اللذان يطالب الخاطفون أيضاً بإطلاقهما، فيعود البت في شأنهما إلى وضعهما القانوني. ولم يشدد بري على هذا الأمر، لأن الأهم هو المطلب الأول. لذلك انطلاقاً من الدور الذي بدأ يضطلع به على هذا الصعيد، عزز سيطرة حركة “أمل” على محيط المطار، وأعلن أن نقل الرهائن من الطائرة كان بناء على أمر منه بهدف حمايتهم، ولكن في الواقع كان ذلك بالاتفاق مع الخاطفين الذين احتفظوا بأربعة رهائن يُعتقد أنهم من اليهود الأميركيين.
كان الهدف إذلال أميركا إلى أقصى حد، ويبدو أن العملية حققت أهدافها على هذا المستوى، فلم يعد في الإمكان إنقاذ الرهائن، وبقي أن تُلبى مطالب الخاطفين بإطلاق سجناء “عتليت”. وعلى مدى ثلاثة أيام، لم تشهد العملية أي تطورات وظل يكتنفها الغموض لجهة مكان وجود الرهائن، ولمعرفة حقيقة الموقف الإسرائيلي من إطلاق معتقلي “عتليت” والثمن المطلوب أن تدفعه أميركا.
يوم الخميس، 20 يونيو، نظمت حركة “أمل” مؤتمراً صحافياً لخمس رهائن في كافيتيريا المطار، وسط حراسة مسلحة وتدابير أمنية مشددة وفوضى عارمة. طلب الرهائن إلى الرئيس ريغان الإحجام عن أي عمل عسكري، وطلبوا من إسرائيل إطلاق معتقلي “عتليت”. كان الوضع يشبه مسرحية درامية حقيقية. كل أجهزة الإعلام كانت تنقل هذه التطورات. لقد قفزت عملية الخطف وتطوراتها إلى مقام الاهتمام الأول على الصعيد العالمي. كل العالم كان يتابع تطورات طائرة الـ TWA  ومصير الرهائن.
يوم الجمعة،21 يونيو، تطور المشهد الدرامي. نظم “حزب الله” تظاهرة شعبية حاشدة لدعم مطالب الخاطفين الذين ينتمون إليه، وسارت التظاهرة نحو المطار. في الباحة الخارجية علت الهتافات والتكبير، وكان عدد من المشايخ ورجال الدين على رأس التظاهرة. وعند مدخل المطار لاقاهم ثلاثة من الخاطفين يضعون على وجوههم أقنعة لئلا يُعرفوا، إذ استقلوا سيارة تابعة لشركة الميدل إيست، ولما وصلوا صعدوا إلى سلم مخصص للطائرات وألقى قائد عملية الخطف كلمة.
الوزير نبيه بري في مشهد آخر يقرر إطلاق الرهينة الأميركي جيمي بالمر، لأنه يعاني من اضطرابات في القلب. هذا الخبر أثار بعض الارتياح، ولكن… بالمر نُقل إلى مستشفى الجامعة الأميركية، وأُجريت له الفحوصات الطبية اللازمة. وحين تبين أن حالته ليست خطيرة، أعيد إلى مكان احتجازه. والعملية نفسها تكررت مع الرهينة الآخر غرو سماير.
يوم الأحد، 23 يونيو، بدأت تظهر بوادر احتمال التوصل إلى حل للأزمة المستمرة منذ تسعة أيام. فقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية استعدادها لإطلاق 31 معتقلاً من سجن “عتليت” خلال 24 ساعة، وذلك دلالة على حسن النية. هذا التعهد لم يكن كافياً. الوزير نبيه بري والخاطفون اشترطوا أن يطلق سراح الجميع، ولكن هذه الخطوة كانت الأولى على طريق الحل. وبالفعل التزمت إسرائيل ما وعدت به، وأطلقت 31 معتقلاً يوم الاثنين، 24 يونيو.
يوم الثلاثاء لم تحصل تطورات. الأربعاء أُطلق الرهينة بالمر مجدداً، وغادر عبر المطار. وعلى سبيل تسهيل الحلول، اقترح بري وضع الرهائن في سفارة غربية حتى تطلق إسرائيل كل المعتقلين لديها، لكن هذا الاقتراح لم يلقَ قبولاً.
الخميس أُعلن إطلاق 71 معتقلاً جديداً من سجن “عتليت”. تجاوباً مع هذه الخطوة، سُمح للصليب الأحمر بزيارة الرهائن بعد تجميعهم في مكان واحد في بيروت. يوم الجمعة بدأ وضع الرهائن يتعزز. ثلاثة منهم رافقهم عقل حمية، المسؤول العسكري في حركة “أمل”، لتناول الغداء إلى مائدة بري. يوم السبت أُقيمت مأدبة عشاء للجميع في أوتيل السمرلند، بدا أنه عشاء الوداع. كانت الأجواء تشير إلى احتمال إطلاق سراحهم بين ساعة وأخرى، باعتبار أن كل العقبات ذُللت. ولكن هناك مشكلات دائماً في اللحظات الأخيرة. الخاطفون طلبوا تعهداً أميركياً بعدم الاعتداء على قواعدهم أو عليهم شخصياً بعد انتهاء العملية، فتأجلت عملية الإطلاق بعدما كان 35 رهينة جُمعوا في مكان واحد، وظل أربعة منهم يعتقد أنهم يهود في مكان مجهول.
يوم الأحد، 30 يونيو، الساعة 17.00 مساء، جُمع كل الرهائن في مدرسة التحويطة في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية، يحيط بهم المسلحون من كل مكان. وعلى متن الطائرة، عقد الخاطفان الأصليان محمد علي حمادة وحسن عز الدين، اللذان نفذا العملية انطلاقاً من اليونان، مؤتمراً صحافياً وتليا بياناً أعلنا فيه انتهاء العملية التي حققت أهدافها. بعد البيان، تركا الطائرة التي ظلت جاثمة وحدها على أرض المطار في المكان نفسه، الذي وَضعت فيه منذ 14 يوماً.

 

رفضت السلطات اللبنانية في البداية هبوط الطائرة على أراضيها (غيتي)

عشر سيارات تابعة للصليب الأحمر حضرت إلى المدرسة، حيث جُمع الرهائن التسعة والثلاثون. كانت الساعة نحو 17.30، حين حلت أولى لحظات الانتقال إلى الحرية وانتهاء الكابوس. بعد ربع ساعة اكتمل ركوب السيارات. سار الموكب باتجاه طريق الشام ومن ورائه سيارات تابعة للاستخبارات السورية وحركة “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي للحماية فقط.
منتصف الليل، لم ينتظر المخطوفون كثيراً في دمشق، طائرة خاصة نقلتهم إلى فرانكفورت في ألمانيا، حيث كان في استقبالهم نائب الرئيس الأميركي جورج بوش.
يوم الثلاثاء، 2 يوليو (تموز)، اتصل ريغان بالرئيس السوري حافظ الأسد وشكره على المساعدة في إنهاء العملية، وتحدث معه بشأن مصير الرهائن الأميركيين الآخرين السبعة المحتجزين في بيروت. وفي وقت لاحق، كان ريغان يتعهد بمحاكمة قتلة الراكب الأميركي، الجندي في البحرية، الذي أُطلقت النار على رأسه في اليوم الأول للعملية، وأُلقيت جثته من الطائرة على أرض المطار.
على خط آخر، وتنفيذاً للتعهدات التي سبقت إنهاء العملية، أطلقت إسرائيل في 3 يوليو 300 معتقل من سجن “عتليت”، بإشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ثم تتالت عمليات الإطلاق، 100 في 24 يوليو، و79 في 13 أغسطس، وأخيراً 113 في 29 أغسطس.
في المقابل، لم تستجب إسبانيا لشروط الخاطفين، وحكمت في 25 يونيو 1985 (أي قبل انتهاء العملية) على كل من محمد خير عباس ومصطفى علي خليل، اللذين طالب الخاطفون بإطلاقهما، بالسجن مدة 23 سنة لكل منهما.
وكانت واشنطن تُعد العدة للرد، وتعلن أنها لن تسكت بعد اليوم على ما تتعرض له مصالحها. ودعا وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز الأسرة الدولية إلى عدم استخدام مطار بيروت بعد اليوم، “لأنه تحول ملجأ آمناً للإرهابيين وقراصنة الجو”. ولم يكن هذا كل شيء أيضاً عن العملية. ففي 13 يوليو، ذكرت صحيفة “ذي فيلت” الألمانية الغربية أن “إرهابيين جاءوا من الشرق الأوسط أُوقفوا في برلين الشرقية وأُبعدوا إلى الخارج، كانوا ينوون الانتقال إلى ألمانيا الغربية لخطف طائرة تابعة لشركة “البان أم” الأميركية، لدعم عملية خطف طائرة الـ TWA، وكان المعتقلون يحملون جوازات سفر دبلوماسية، وينقلون مواد متفجرة في أمتعتهم. ورجحت السلطات الألمانية أن هدفهم ربما كان تسليم المتفجرات إلى آخرين في ألمانيا الغربية. مجلس الشيوخ الألماني الغربي أكد هذه المعلومات.
محاكمة حمادة
فصول العملية لم تنتهِ عند هذا الحد، لأن الملف لم يطوَ وفُتح من جديد على تطورات جديدة بعد التعرف على هويات الخاطفين الحقيقية، وتوقيف أحدهم محمد علي حمادة في ألمانيا، في 13 يناير 1987، وهو الذي كانت صورته قد ظهرت وهو يشهر مسدسه من شباك الطائرة إلى جانب القبطان.

أوقف محمد علي حمادة في ألمانيا عام 1987 (غيتي)

حوكم حمادة في ألمانيا وحكم عليه بالسجن المؤبد، وأطلق سراحه عام 2005 ليعود إلى بيروت، وقد فشلت الولايات المتحدة في استعادته من ألمانيا بسبب خطف رهائن ألمان في بيروت. وهذه قصة مختلفة عن العلاقة بين ألمانيا و”حزب الله” بعدما وضعته أخيراً على لائحة المنظمات الإرهابية.
الإعلان الأميركي الجديد، يأتي ضمن سياق أن واشنطن لن تنسى، وستستمر في ملاحقة من تعرضوا لمصالحها. ومن خلال هذه المنهجية، جرت محاولة لخطف حسن عز الدين في لبنان، ولكنها باءت بالفشل وتم توقيف عدد من المتورطين فيها. وتلك أيضاً حكاية أخرى من حكايات خطف الطائرات وتجنيد العملاء والحرب المفتوحة بين واشنطن و”حزب الله”

عن admin

شاهد أيضاً

أين عدالة القروض السكنية؟

المصدر : وكالة نيوز الكاتب : عباس قبيسي في العديد من البلدان، يعتبر الحصول على …