بعد تجميد استمرّ لأشهر، وبأمر من المرشد الإيراني، علي خامنئي، عادت قضية موافقة طهران على لوائح «مجموعة العمل المالي» (FATF) من عدمها لتتصدّر مجدّداً أجندة النقاش في «مجمع تشخيص مصلحة النظام»، وذلك بعدما أصبح قرار البلاد في هذا الشأن منوطاً بالمجمع، على خلفية تباين نشب حول القضية بين البرلمان السابق و«مجلس صيانة الدستور». النقاش الذي استؤنف في هذه الهيئة الإيرانية المُخصَّصة دستورياً للبتّ في الخلافات الحاصلة بين الطرفين المذكورَين، كان من المُتوقّع، وفق ما أعلنه أمين عام «المجمع» محسن رضائي قبل أسابيع، أن يُحسم قبل نهاية العام الإيراني الحالي (ينتهي في 20 مارس/ آذار 2021). كما زادت هذه التوقُّعات بالتزامن مع التئام المجمع في الأوّل من الشهر الجاري (الاثنين الماضي)، لا سيما أن هذه الجلسة عُقدت بحضور عدد من أعضاء الحكومة، على رأسهم وزير الخارجية محمد جواد ظريف. لكن مع انتهاء الجلسة التالية بعد يومين، تَبيّن أن تلك التوقُّعات لم تكن في محلّها، إذ أعلن رضائي نفسه، بعد انتهاء جلسة الأربعاء، «تأجيل اتّخاذ قرار إيران بخصوص لوائح العمل المالي»، عازياً التأجيل إلى «تأخُّر الحكومة في توصيل الردّ المكتوب على بعض أسئلة المجمع». وأوضح أن «أسئلة المجمع المُوجَّهة إلى الحكومة كانت كالتالي: ما الضمان الذي تُقدّمه الحكومة عندما تتمّ الموافقة على بنود هذا القانون؟ وهل ستصبح إيران عضواً في مجموعة العمل المالي؟»، معرباً عن «أمله في أن تُقدِّم الحكومة إجابة واضحة على ما سبق».

التبرير الذي ساقه رضائي باسم «مجمع تشخيص مصلحة النظام» لا يبدو مقبولاً لدى المتخصّص في الشؤون الدولية، حسن بهشتي بور، الذي أبدى استغرابه من «استمرار أمين عام المجمع في تجاهُل حقيقة أن إيران لن تنضمّ إلى مجموعة العمل المالي» على أيّ حال، مضيفاً، في مقابلة مع صحيفة «جهان صنعت» الاقتصادية، «(أننا) لا نعرف بأيّ لغة يجب أن نشرح لبعض المسؤولين أنه في حال كان من المقرَّر لدولة ما أن تصبح عضواً في مجموعة العمل المالي، فيجب أن تتمتّع هذه الدولة بظروف اقتصادية من حيث التنمية لا تتمتّع بها إيران حالياً». وبيّن أن «قبول هذه اللوائح من عدمه لا يؤثر في العضوية في مجموعة العمل المالي»، مشيراً إلى أن «دولة مِثل إندونيسيا لا تزال عضواً مراقباً في هذه المجموعة، وذلك بعد سنوات قضتها في صفّ الانتظار». كما لفت إلى أن «السعودية تَمكّنت بصعوبة كبيرة من الانضمام العام الماضي، بعد أن خطت خطوات في التنمية الاقتصادية»، مُذكّراً بأن «37 دولة من أصل 193 أعضاء في هذه المجموعة، وهذه الدول الـ37 تُعدّ 99% دولاً متطوّرة».وحذّر عضو المجلس المركزي لحزب «كارغزاران»، جهانبخش خانجاني، من جهته، من أنه «كلّما تأجّلت الموافقة على هذا النظام المالي من وقت إلى وقت لاحق، فإن مشاكل البلاد لن تُحلّ»، مُدلّلاً على رأيه، في حديث إلى الصحيفة ذاتها، بالقول إن «مشاريع قوانين مجموعة العمل المالي هي مراجعة ودراسة لقوانين مكافحة غسل الأموال ومكافحة الإرهاب، والتي تتطلّب من الأفراد والشركات أن يشرحوا للحكومات كيفية كسب المال، وكيفية فصل المال النظيف عن المال غير المشروع، بما يُقلّل من التهريب والرشوة ومبيعات المخدرات». واعتبر خانجاني أن «عدم موافقة إيران على بنود مجموعة العمل المالي يؤدّي إلى أن تصبح مصداقيتها موضع تساؤل في المحافل الدولية»، معرباً عن اعتقاده بأن «مقاومة مجمع التشخيص لطريق الخروج من هذا التشويه يزيد من حساسية المؤسّسات الدولية تجاه طهران»، وهو ما تسبّب، بحسبه، بـ«انخفاض حادّ في عائدات النقد الأجنبي وارتفاع سعر الصرف، إلى جانب تقليل رغبة الدول الأخرى في الاستثمار في إيران». ورأى الخبير الاقتصادي، مرتضى أفقه، بدوره، أن «تأجيل قرار الانضمام إلى FATF، حتى لو كان ليوم واحد، سيتسبّب بضرر للاقتصاد الإيراني الذي لم يعد يحتمل استمرار العقوبات وتجميد الأموال في الخارج»، نافياً في مقابلة مع صحيفة «ابتكار» الإصلاحية أن «يكون لدى معارضي الانضمام أيُّ مبرّر منطقي لموقفهم». وشدّد في الوقت نفسه على «ضرورة عدم توقُّع تحسين في الوضع الاقتصادي طالما لم يُحسَم موضوع الانضمام إلىFATF». وفي مقابل ما سبق سرده من تداعيات سلبية لتأخُّر القرار الإيراني، يتساءل البعض: «هل تضمن الموافقة تحسُّن الوضع في البلاد وانتهاء التضخُّم؟». تساؤلٌ يجيب عنه النائب الإصلاحي في البرلمان الإيراني، محمد رضا خباز، بالنفي، موضحاً أن «الموافقة لا تعني انخفاض الأسعار، لكنها تمنع الخسائر الإضافية»، مضيفاً في مقاله مع صحيفة «آرمان ملي» الإصلاحية أن «عدم الموافقة سيزيد تكلفة السلع المستوردة بنسبة 20%». ومن هذا المنطلق، اعتبر الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أن «الموافقة على هذه القوانين مهمّة جدّاً لحياة الناس»، منبّهاً إلى أن «عدم الموافقة على هذه اللوائح سيزيد قيمة المخاطرة بالنسبة لإيران من 6 إلى 7، وهذا يعني أن على الناس أن يدفعوا من جيوبهم المزيد مقابل تحويل الأموال».
ولم يغفل المستاؤون ربط قرار المجمع بالأهداف الانتخابية، خصوصاً مع كشف رضائي في حديثه إلى وسائل الإعلام أن «عدداً من الأعضاء يعتقدون أنه إذا تمّت الموافقة على هذه اللوائح، فلن يكون هناك مجال لتنفيذها في الوقت المتبقّي من الحكومة الثانية عشرة، ويجب على الحكومة المقبلة تنفيذ هذه اللوائح، لذا فمن الأفضل تخصيص هذه اللوائح في الحكومة القادمة، لذلك علينا الانتظار حتى أيلول/ سبتمبر لمراجعة ودراسة هذه البنود». ومن هنا، بدا لافتاً تركيز مقالة النائب خباز على أن «بعض الراغبين في الترشُّح للانتخابات الرئاسية المقبلة في حزيران/ يونيو لا يريدون أن ينتهي هذا الأمر»، فيما تجاهَل خانجاني إشارة رضائي إلى أن الرأي المتقدّم يُعبّر عن بعض أعضاء المجمع لا جميعهم، واضعاً «تصريحات رضائي في سياق الدعاية الانتخابية، باعتباره مرشّحاً للانتخابات الرئاسية المقبلة»، متّهماً إياه بأنه «كمرشّح لا يريد حلّ مشاكل مجموعة العمل المالي والقضايا الاقتصادية في عهد حكومة روحاني، وذلك لأن إزالة الحواجز الاقتصادية والانفتاح سيخلقان حيوية في المجتمع، وسيشارك المزيد من الناس في الانتخابات المقبلة، الأمر الذي من شأنه أن يجعل حظوظه في الفوز تصل إلى الصفر».
على الضفة الأخرى، ومع أن معارضين للحكومة رحّبوا بقرار المجمع على أساس أن الانضمام إلى «FATF» سيكشف الطُّرق التي تستخدمها طهران للالتفاف على العقوبات الأميركية ، إلا أن صحيفة «كيهان» الأصولية أبدت تخوُّفها إزاء إرجاء الرفض، لأن ذلك، بحسب رأيها، «من شأنه أن يساعد في تحويل الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد مشروط»، متسائلة على لسان القسم السياسي فيها: «إلى متى يجب أن يستمرّ ارتهان بناء اقتصاد البلاد بالموافقة وعدم الموافقة على هذه القوانين؟». وكان الكاتب الإيراني، مهدي مظهر، قد وضع في مقالة في صحيفة «وطن امروز» الأصولية، أواخر الشهر الماضي، أربعة سيناريوات للرأي الذي من الممكن أن يرسو عليه «مجمع تشخيص مصلحة النظام»، مورداً أن «السيناريو الثاني الذي يمكن افتراضه هو تجاهل هذه القوانين والتطلُّع إلى الأحداث المستقبلية»، مُذكّراً بأن «هذا السيناريو كان هو نفسه سائداً خلال العام أو العامين الماضيين، حيث لم يُسفر سوى عن تعطيل القدرات الداخلية للاقتصاد، نتيجة استمرار جوّ عدم اليقين والريبة». وعليه، خلص مظهر إلى أن «التجاهل ليس في مصلحة الدولة الإيرانية على الإطلاق، لأن الضرر الناجم عن الشكوك وعدم يقين النشطاء الاقتصاديين وتكييفهم التدريجي وفقاً للقرارات السياسية في الخارج، لا يقلّ عن الضرر الناجم عن القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي».
ختاماً، يبدو، بالاستناد إلى ما سلف، أن هناك تكلفة يجب أن تدفعها طهران، سواءً وافقت أم لم توافق أو حتى لو ماطلت في حسم الموافقة من عدمها على «لوائح العمل المالي»، لكن يبقى من المؤكد أن حجم التكلفة سيتفاوت من خيار إلى آخر.