لا تأتي الفرص الثمينة بسهولة، ومن النادر أن تتكرّر. الفرصة التي وُلدت من رحم التحرّكات الشعبية في نهاية صيف 2019، لم تتكرّر في التحرّكات الأخيرة، رغم أن هناك ظروفاً قد تعدّ ملائمة لظهورها؛ فهناك انهيار متواصل منذ أكثر من سنة ونصف من دون أي إجراء أو تدبير لكبح تسارعه أو وقفه. بل على العكس، لُزّمت إدارة الانهيار لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ونوابه الأربعة الذين يمثّلون قوى السلطة، من أجل إطفاء خسائر القطاع المصرفي عبر ضخّ سيولة ورقية في الأسواق تجاوز 30 ألف مليار ليرة حتى نهاية شباط، مقارنة مع نحو 5 آلاف مليار ليرة في تشرين الأول 2019. هذا الأمر وحده كافٍ لتفسير سبب ارتفاع سعر الدولار إلى مستويات غير مسبوقة، متجاوزاً 10 آلاف ليرة. لكن لا تنحصر الأسباب في ذلك، لأن سلامة وفريقه الرباعي خلقوا مساحة إضافية من الطلب على الدولار عبر مجموعة تعاميم استغلّتها المصارف لجمع الدولارات الورقية من السوق بهدف ترميم ميزانياتها ورساميلها. بنتيجة هذا المسار بكل عناصره، تضاعفت معدلات الفقر وسط بطالة هائلة بين الشباب، ورغبة جامحة في الهجرة، واتساع مروحة الفقر الغذائي… كل ما سبق لم يُستعمل من أجل تكرار فرصة «التغيير»، بل استُعمل من أجل تصفية حسابات بين الأطراف السياسية العاجزة عن تأليف حكومة.
فجأة، انتهت أمس عملية تصفية الحسابات. ربما باءت بالفشل، أو ربما كان تكتيكاً يمهّد لخطوات مقبلة. وبمعزل عن ذلك، فإنه بعد ساعات على قيام الجيش بفتح الطرقات، أعلن وزير المال السابق علي حسن خليل أنه تقدّم باقتراح قانون معجّل مكرّر يرمي إلى إعطاء كل ضباط وعناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة والأمن العام وشرطة مجلس النواب والجمارك دفعة على غلاء المعيشة بقيمة مليون ليرة شهرياً، لمدّة 6 أشهر.
هذا الاقتراح جاء بمثابة استجابة لما ورد في المؤتمر الصحافي لقائد الجيش جوزف عون عن تدهور أوضاع العسكريين، لكن لا يمكن حصر تفسير الخطوة بأنها جائزة ترضية للقائد على تراجعه عن المشروع المقرّر أصلاً، لأن المسألة تدخل في صلب عمل هذا النظام وآليات التوزيع المتخصصة بتحويل المال العام إلى مال خاص. فمثل هذا الإجراء هو بمثابة استئناف مسار عمل النظام السابق والتأسيس على نتائج الانهيار. هذا النظام لم يتوقف عن العمل إلا لفترة قصيرة بدأت في 17 تشرين الأول. خلال الأيام التالية، كان أركان النظام يشعرون بقلق عميق. هم أنفسهم الذين حشوا الإدارة العامة والمؤسسات العامة بعشرات الموظفين، رغم وجود قرار بوقف التوظيف. كل الأطراف من دون استثناء كان لهم نصيب من هذه العملية التي فاقمت كلفة سلسلة الرتب والرواتب بأكثر من 1000 مليار ليرة إضافية في سنة واحدة.
هذا المثال ليس أحدث سلوك للنظام الزبائني، بل هناك العديد منها، سواء تلك التي تتم مباشرة في الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات عبر توظيف الأزلام والأتباع، أو عبر تفصيل المناقصات على قياس مورّدين محدّدين، أو عبر أشكال أخرى من توزيع الأموال مقابل الولاء السياسي. القنوات الزبائنية قد تكون صناديق وهيئات، أو شتول، أو بونات بنزين، أو مساعدات ما بعد الكوارث الطبيعية، أو إعمار حائط، أو تخصيص جمعية باعتمادات… ثمة طبقات وأدراج كثيرة من هذا الهرم الزبائني الذي لا ينحصر بالدولة فقط، بل يمتدّ إلى القطاع الخاص أيضاً.

فبحسب دراسة أجراها إسحق ديوان وجمال حيدر، تبين لهما أن هناك استنتاجين عن تأثير العلاقات السياسية على نموّ التوظيف في لبنان:
– الشركات المرتبطة سياسياً، وهي الأكبر، تخلق وظائف أكثر وتدفع رواتب أعلى من الشركات التي لا ترتبط بالسياسيين، لكنها في المقابل أقل إنتاجيةً منها.
– الشركات المرتبطة بسياسيين تتحمّل مسؤولية انحسار فرص العمل والتوظيف على مستوى القطاعات، من خلال التأثير سلباً على نمو الشركات غير المرتبطة سياسياً: فمقابل كل شركة مضافة مرتبطة سياسياً ينخفض عدد الوظائف المخلوقة بنسبة9.4%. وهذه النتائج تبرز الآثار السلبية للزبائنية على الاقتصاد اللبناني.
الاقتراح يثير التساؤلات بحدّ ذاته. فلماذا سيحصل العسكريون على دفعة مسبّقة على غلاء المعيشة دوناً عن غيرهم من موظفي القطاع العام؟ ما الذي يمنع الاساتذة من الحصول على هذه الدفعة؟ ما الذي يمنع موظفي الإدارة العامة؟ ما الذي يمنع المؤسسات العامة والهيئات والصناديق المستقلة من الحصول عليها؟
لكن قد تثير هذه الاسئلة نوعاً من الحساسية تجاه تدني قيمة الرواتب في القطاع العام. بالفعل، إن غلاء المعيشة هو حقّ لهم في ظل الأوضاع هذه، لكن لا يمكن التعامل مع مسألة غلاء المعيشة في ظل أزمة كبرى بهذا الحجم، على طريقة «الدكاكين». فتح دكانة هنا ودكانة هناك، ثم يتم تجميعها لنرى الحجم النهائي، هو أمر غير مقبول وغير اقتصادي وغير علمي. فمن حقّ القطاع الخاص أيضاً الحصول على تعويض عن ضعف قدرته الشرائية، لكن هل بإمكان الخزينة والقطاع الخاص تحمّل زيادات عشوائية كهذه؟ أم أن نظام الزبائنية ستكون له الكلمة الفصل؟
في الواقع، إن زيادة غلاء المعيشة باتت أمراً محتوماً، وهي حقّ لكل العاملين بأجر. لكن في ظل طباعة النقود التي يمارسها مصرف لبنان خدمة لنظام الزبائنية، يتطلب الأمر دراسة أعمق وأشمل لمفاعيل كل عناصر الإنتاج (بما فيها الأجور والرواتب) في الاقتصاد ودورة الاستهلاك. لا يمكن أن يتم ذلك من دون إعادة النظر في النموذج كلّه وكسر الحلقة التي تعتمد على الاستيراد من أجل الاستهلاك. أو على الأقل، رسم مسار لكسر هذه الحلقة. من دون ذلك، سيبقى النظام قائماً على عمليات «التوزيع»، تماماً كاقتراح خليل الحالي وما سبقه على مدى العقود الثلاثة الماضية. لن تكون هناك جدوى اقتصادية من عمليات التوزيع، بل هناك جدوى زعائمية. هذا الأمر يعيدنا إلى الواقع الحالي: النموذج يعيش «سكرة» القضاء على أي فرصة جديدة لـ«التغيير». تمكّن من ذلك لأنه يعد الناس بأن يعيدهم إلى النظام الأكثر أمناً والأكثر استقراراً لهم، أي نظام الزبائنية. في ظل هذا النظام، كان سعر الدولار ثابتاً. في ظل هذا النظام كانت الودائع تدفع لأصحابها. صحيح أن الناس كانوا مرتهنين للزعماء، لكنهم كان يعيشون بأسعار مدعومة طوال الوقت. ربما يعدهم بتثبيت سعر الدولار مجدداً. سيعدهم بالكثير، لكنه لن يعدهم ببناء اقتصاد، أي اقتصاداً يخلق الوظائف، وفيه النمو، وفيه شبكة أمان قائمة على التغطية الصحية الشاملة، وفيه الحدّ من الهجرة… لم يعدهم سوى بالاستعباد. ربما يومها سيكون المقابل تثبيت سعر الدولار مجدداً.