بروفيسور جاسم عجاقة-الدياررفعت من الكلفة على المواطن وغموض في الأفق

ما لا يقلّ عن ثلاثة تريليونات ليرة الخسارة الشهرية المباشرة لعدم تشكيل الحكومة

 

الإرتفاع العالمي في أسعار المواد الأوّلية وعلى رأسها القمح، والسكر، والنفط، شكّل عاملا سلبيا على المواطن اللبناني الذي يرزح أصلا تحت عبء أزمة إقتصادية خانقة. الأسعار في الأسواق العالمية إرتفعت بشكل ملحوظ في الأشهر الماضية نتيجة عدّة عوامل ويبقى أهمّها جائحة كورونا التي رفعت أسعار المواد الغذائية وساهم بدوره خفض إنتاج النفط في رفع أسعار النفط العالمية إلى مستويات عالية مُقارنة بالطلب الإقتصادي.

بالطبع هذا الأمر يستغله التجار لتبرير رفع أسعارهم الجنونية بالتزامن مع حجّة ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء. والملاحظ أن هذا الأخير يؤدي دورًا أساسيًا في رفع الأسعار ولكن تأثيره يصير معدومًا عند إنخفاضه في السوق السوداء مما يدلّ على جشع ونهم التجّار الذين يُتاجرون بالبلاد والعباد.

في ما يخصّ التوقعات لسعر القمح في الأسواق، تُشير التحاليل الاقتصادية (International Grain Council)، إلى أن الإنتاج سيصل إلى مستويات تاريخية والتي وعلى الرغم من الطلب المُرتفع، ستؤدّي إلى تراكم المخزون. وتبقى الأنظار مُسلّطة على صادرات روسيا لمعرفة توجّه الأسعار مع العلم أن الأسعار إنخفضت في الأسبوع الماضي لتصل إلى 283 دولارا أميركيا للطنّ. وهذا ما دفع السلطات الروسية إلى فرض ضريبة على التصدير بقيمة 60 دولار للطنّ لتمتصّ الخسائر الناتجة من إنخفاض الأسعار. ومن الجدير ذكره أن لروسيا تأثيرا مهما في أسعار السوق بسبب حجم إنتاجها.

من جهة أخرى فإن توقّعات بعض مكاتب الدراسات (Gov Capital) تُشير إلى إستقرار في الأسعار حتى أواخر هذا العام، لتُعاود الأسعار إرتفاعها إبتداءً من أذار 2022. في حين أن توقعات بنك ABN Amro هي نحو الإرتفاع إبتداءً من الربع الأخير من هذا العام.

في ما يخصّ السكر، إنخفضت الأسعار في الأسواق العالمية إلى 15.5 دولار أميركي بعد أن وصلت إلى أكثر من 17.8 دولار في نهاية شباط الماضي. والتوقّعات تدور حول ارتفاع بطيء حتى نهاية العام لتصل إلى نحو الـ 17 دولار أميركي، لترتفع في أذار 2022 إلى أكثر من 26 دولارا أميركيا للرطل الواحد.

أمّا على صعيد النفط، فقد إرتفعت الأسعار إلى نحو 69 دولارًا للبرميل نتيجة الخفض في الإنتاج من قبل منظّمة أوبك ولكن أيضًا المخاوف التي طالت إستهداف مُنشآت نفطية في المملكة العربية السعودية وإقرار رزمة التحفيزات الأميركية مما يعني تحّسن الطلب، كل ذلك دعم أسعار النفط وأوصلها إلى مستوياتها الحالية. إلا أن تحليل وضع الاقتصاد العالمي حاليًا يُشير إلى أن أسس السوق (كالطلب في قطاع النقل الجوّي مثلاً) لا تزال ضعيفة مما يعني أن لا إمكانية فعلية لإستمرار الأسعار بالإرتفاع.

إلا أن توقّعات بنك ING تشير إلى أن أسعار النفط سترتفع على المدى القصير نظرًا إلى المخاطر التي تطال المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية وهو ما يُترّجم بالـ Political risk الذي يضاف إلى ما يسمى Risk premium.

مما تقدّم نرى أن الغموض السلبي يلفّ المُستقبل من ناحية الأسعار العالمية، إلا أن الإرتفاع في هذه الأسعار يتمّ عكّسه بشكل مزدوج على المواطن اللبناني (السعر بالإضافة إلى سعر الدولار في السوق السوداء). أّمّا الإنخفاض، فلا أثر له في الأسعار المحلّية وهو أمر أصبح معروفًا إذ إن هيكلية الأسعار في لبنان تتميز دائمًا بالمنحى التصاعدي مع الإحتكار الذي يتحكّم بمفاصل الاقتصاد اللبناني بمعاونة الإهمال الرسمي.

من هذا المُنطلق يتوجّب على الحكومة، أي حكومة ولو كانت حكومة تصريف الأعمال، العمل على تأمين المواد الغذائية والأوّلية للمواطن اللبناني من خلال توقيعها عقودا آجلة لتثبيت السعر من الآن خصوصًا أن الأجواء السياسية تُشير إلى تدهور إضافي في مداخيل ومُدّخرات المواطن اللبناني. فتقلّب الأسعار هو من أصعب ما يُمكن أن يواجه المواطن صاحب الدخل المحدود في حياته اليومية إذ يستنزف أمواله وأعصابه في حين يستفيد منها التجّار بالدرجة الأولى كما بتنا نعيشه يومياً. إن معالجة هذه الظاهرة الشاذة في الاقتصادات يجب أن تواكب بتواصل مع مصرف لبنان المركزي والمصارف التجارية إضافة إلى التشدّد في عمليات قمع التهريب الذي يستفحل يوماً بعد يوم.

في هذا الوقت، تستمرّ الحرب الأهلية الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى المنابر وفي وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق. وأصبحت إدارة منصات التواصل الاجتماعي الهمّ الأول للمعنيين ومن يحصد الترند (Trend) اليومي، في حين أن البلد يغرق بأزماته السياسية والإقتصادية والمالية والنقدية والإجتماعية والمواطن متروك لمصير أسود يواجه فيه جشع التجّار وحريق سعر صرف الدولار.

الأزمة التي يعيشها لبنان هي أزمة مُتعدّدة الأوجه! ويبقى الوجه السياسي العامل الأكبر فيها نظرًا إلى أن لا إمكانية للقيام بأي عمل إصلاحي أو حتى أي إجراء للتخفيف عن كاهل المواطن، إلا من خلال قرار سياسي وسلطة سيادية تقوم بما يلزم. من المسلم به في الدستور اللبناني أن القرار الاقتصادي والمالي هو من صلاحيات الحكومة وبالتالي فإن رفض حكومة الرئيس حسان دياب أخذ هذه القرارات (منذ الإستقالة)، جعل الاقتصاد عرضة لقرصنة المافيات المُنتشرة في كل القطاعات.

ولما كانت منهجية عمل الحكومات مبنية على الحوكمة الرشيدة على مُختلف الأصعدة خصوصًا الاقتصادية والمالية منها، لذا، يجب أن تُشكّل الأزمة الحالية مدخلاً لإعتماد الحوكمة الرشيدة وإبعاد المُحاصصات السياسية عن الملفات الاقتصادية والمالية وأن تكون الشفافية في إتخاذ القرارات عملية بحتة مبنية على آراء الخبراء في جميع المجالات لما فيه خير الشعب اللبناني وديمومته.

سياسيًا ما زال الغموض يلفّ مصير تشكيل الحكومة وأغلب الظنّ أن هذا الغموض مُرتبط بشكل رئيسي بالملفات الإقليمية وبالتحديد بملف التفاوض الأميركي – الإيراني. هذا الأخير أخذ منحًى تصعيديًا مع فرض واشنطن عقوبات على مسؤولين إيرانيين وهو ما يدلّ على تعقيدات ستُلقي بثقلها بدون أدنى شكّ على ملف تشكيل الحكومة.

على الصعيد المالي والنقدي، الخسائر تتراكم كل يوم من دون حكومة مع إزدياد عجز الموازنة الذي من المُتوقّع أنه تخطّى الـ 6 تريليون ليرة لبنانية في العام 2020 وما يُقارب الـ 2 تريليون ليرة منذ بدء العام 2021. هذا التراكم يتزامن مع ارتفاع ملحوظ للكتلة النقدية نتيجة إستمرار عجز الموازنة (طبع للعملة لتغطية هذا العجز) ولكن أيضًا طلب المودعين من المصارف بالليرة اللبنانية حيث بلغت الكتلة النقدية م1 حتى كانون الأول الماضي 40 تريليون ليرة لبنانية مع وتيرة زيادة شهرية بمُعدّل 2.6 تريليون ليرة لبنانية. هذه الأرقام تجعل من عودة الدولار إلى 1500 ليرة أمرًا شبه مُستحيل (من دون إستثمارات ضخّمة) مع تمويل هذا الطبع لثلاثة أمور: عجز الموازنة، سحوبات المودعين، وعمليات التهريب.

في الختام يُمكن القول إن تأخير تشكيل الحكومة يُكلّف الشعب اللبناني خسائر مباشرة لا تقلّ عن ثلاثة تريليونات ليرة لبنانية شهرياً وهو أمر يتحمّل مسؤوليته كل من هو معني بتشكيل الحكومة.

فهل من بارقة أمل أو صحوة ضمير؟