عمّان | ما يدور في الخفاء من تداعيات للقضية الأضخم في تاريخ الملكية الرابعة في الأردن منذ 1999، تاريخ تنصيب عبد الله الثاني، الأمير الثانوي في العائلة الهاشمية، ملكاً، لن يخرج بسهولة إلى العلن، بل يمكن القول إن الجانب المكشوف منه انتهى كما أراد له الملك شخصياً، إذ وافق على بيان يتّهم أخاه غير الشقيق، الأمير حمزة، بالتعاوُن مع الخارج لتنفيذ «مخطّط معقّد» مع تجنُّب تبيانه، إلى أن أوكل مساء أمس قضية حمزة والتواصل معه إلى عمّه، ولي العهد السابق الأمير حسن، ليعُلِن الأوّل، في وقت متأخّر، أنه يضع نفسه تحت تصرُّف الملك. من الواضح، إذاً، أن التعامُل مع القضية سيكون وفق مسارَين دقيقين: الأوّل يعزل خلافات العائلة المالكة عن الحكم، وهو أمر سيتعاطى معه أهل الأردن بطبيعتهم المحافظة والعشائرية بإيجابية، والثاني يُصوِّب على «الطرف الخارجي» الذي تَجنَّب البيان الحكومي ذكره بالكامل، مع أن «أبطال القضية» محسوبون على السعودية بالذات، وهو أمر سيقبله أهل المملكة أيضاً من باب الحمية والنخوة! وخلافاً لما يحدث في ممالك الخليج وإماراتها، يمكن وصف الأردن بالمملكة المستقرّة على صعيد الحكم، إذ إن طبيعة العائلة «الغريبة» تُمثّل صيغة توافقية مقبولة لحكم خزّان بشري بدأ بتركيبة غير متجانسة تضمّ لاجئين وقبائل ممتدّة داخلياً مع دول الجوار، واستمرّ حكمها مئة عام من اللعب على التوازنات واحتواء الخلافات بين المُكوّنات الديمغرافية، فيما لم تنجح التغيرات في المنطقة واختلاف التحالفات في زعزعة هذا الحكم أو استغلال أطرافه، وذلك ببركة ورعاية جهات متعدّدة، أبرزها الولايات المتحدة والعدو الإسرائيلي.
أمّا المسكوت عنه، فيتعلّق بصاحبة فكرة ما حدث في الأردن، أي الطرف المستفيد والمعادي لعبد الله وليس للحكم الهاشمي، لكون إشراك حمزة في الحكم يعني التخلُّص من الملك الحالي على وجه التحديد. في الأصل، ليس ثمّة مواقف ثورية لعبد الله، فهو يُمثّل داخل محور واشنطن شريكاً مرناً ولا يثير أيّ مشكلات، كما أنه منخرط في السياسات الأميركية والإسرائيلية ومنفّذ لها. وعلى رغم ما شاب مرحلة دونالد ترامب من برود بين الديوان الملكي والبيت الأبيض، رسم علامة سوداء في تاريخ العلاقات، إلّا أن ذلك لا يجعل عبد الله غير مرغوب فيه أميركياً، بل هو يتمتّع بمواصفات الحليف غير المُكلِف وغير المشاكس، والذي يُمثّل إعطاء الضوء الأخضر لإطاحته في بداية ولاية جو بايدن نوعاً من المقامرة. وإن كان هناك أطراف آخرون يريدون تغيير عبد الله، فالواضح أن الموافقة الأميركية لم تُعطَ لهم، وهذا السبب الرئيس في إجهاض المحاولة أو ضربها استباقياً قبل أن تصير أمراً واقعاً يُحتّم على واشنطن التعامُل مع تداعياته. إذاً، مع استبعاد دور الأميركيين كطرف مُحرِّك للتغيير، فإن المتربِّص الثاني بالملك وصاحب «العداء» الأقدم له هو بنيامين نتنياهو، المدعوم الآن إماراتياً وسعودياً، لكنه غير مدعوم من إدارة بايدن بما يكفي. ومع أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية لم تبتّ بعد فوز نتنياهو برئاسة الحكومة، فإن الرجل الذي تصرّف بعد منْع طائرته من التحليق في الأجواء الأردنية على نحو «أرعن»، وخالف توصيات الجهات الاستخبارية والأمنية الإسرائيلية، تورّط على ما يبدو في القضية الأخيرة، من دون إعلام تلك الجهات التي أبدت قلقاً واضحاً استدعى الطمأنة الأردنية الفورية لها بعد إعلان الحدث، بغضّ النظر عن مدى تورُّط نتنياهو وشكله.

أمّا الطرف الإماراتي، الذي تقارَب مع شعبوية ترامب ونتنياهو، وقرّر تطبيع العلاقات من دون أيّ مقابل يصبّ في مصلحة الفلسطينيين، أو تدعيم موقف الأردن في الوصاية الهاشمية على القدس، مع أنها ركيزة حكم عبد الله وسبب شرعيته، فصمَت في بداية الحدث، ثمّ انخرط في مسلسل البيانات الداعمة. وبمعزل عن حقيقة موقفه، يبدو جديراً التذكير بقضية هروب الأميرة هيا من زوجها حاكم إمارة دبي، محمد بن راشد، والتي تجعل من الصعب التقدير أن أبو ظبي ستغامر بإثارة حفيظة دبي، عبر إزاحة عبد الله، الأخ غير الشقيق لهيا، وتنصيب أخ غير شقيق آخر (حمزة)، لكنه متقارب مع شقيقها الأمير علي الذي دعمها بالكامل، مكانه. بل يمكن القول إن محمد بن زايد فصَل أزمة الأميرة هيا وابن راشد عن العلاقات الاستراتيجية مع الأردن، بل سعى في ما بينه وبين عبد الله بالذات إلى تقارُب يبعد الرياض قليلاً عن عمّان، مستغلّاً فوقية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في التعامُل مع ملك الأردن، وسعيه إلى الدخول على خطّ القدس بإقصاء الهاشميين، عازفاً على وتر العداء القديم بين آل سعود وآل هاشم.
في المحصّلة، تبدو الرياض هي المتهم الأكبر الذي تعزف عمّان عن اتهامه، وما مبادرة الملك سلمان وابنه إلى التواصُل مع عبد الله إلّا لتدارُك الأزمة التي ستؤثر بصورة كبيرة في السعودية، صاحبة الملفّات الثقيلة لدى الإدارة الأميركية وفي المنطقة عموماً. والواضح أن عمّان سرّبت بصورة متعمّدة خبر الكشف عن العملية إلى صحيفة «واشنطن بوست» بالذات، التي ترتبط بالصحافي السعودي المقتول، جمال خاشقجي. ووفق مصادر، ما كان تأخير البيان الحكومي إلّا لإيجاد مخرج يُجنّب كشف ما تمّ كشفه مع رجل ابن سلمان، مدير بلاط الملك السابق، باسم عوض الله. وهذا كلّه ما يفسّر سفر عبد الله إلى الرياض ولقاءه ابن سلمان، والذي ثارت بعده قضية إلغاء ولي العهد الأردني الحالي، الأمير حسين، زيارته للقدس، لتأتي سريعاً قضية طائرة نتنياهو، إذ يتّضح، من السياق المتقدّم، أن القضية ليست جديدة، وتمّ تتبُّعها منذ مجيء عوض الله إلى الأردن قبل شهرين. لكن لا يمكن للملك حرق باسم عوض الله، وهو من صنيعته، بل يُمثّله ويمثّل نهجه، إلّا في سياق أكبر وباستفادة مادّية ومعنوية تُعزّز من حكمه وتعطي ذريعة لقمع أيّ انتقاد داخلي له، ولا سيما أن ترتيبات مرحلة ما بعد التطبيع وما بعد ترامب صارت جاهزة، وعبد الله لاعب أساسي فيها.
داخلياً، لا يمكن الحديث عن العشائر وكونها تقبل أو ترفض، فذلك زمن ولّى بموت الملك حسين، إذ كانت طبيعة الظروف الموضوعية والذاتية للمملكة مغايرة، ثمّ مع بداية عهد عبد الله، وبدعم ثلّة من المستشارين والمقربين، وللمفارقة أهمهم باسم عوض الله، تراجَع دور العشائر وتفكّكت البنى البيروقراطية في الدولة، بل ضُربت بنية العشيرة على مرّ سنوات عبر قانون انتخابي قائم على مبدأ الصوت الواحد أحدث انقسامات اجتماعية حادّة، جعلت ردّ الفعل باهتاً وغير مهم في حدث كالذي مرّ على الأردن. أما المعارضة الداخلية، فخلافاً لبيان جماعة «الإخوان المسلمون» «الداعم والمسانِد للدولة والملك»، والذي جاء بعد مهاتفة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لعبد الله، فكان الصمت سيّد الموقف.