الحدث

فضيحة غرينسيل البريطانية تظهر مدى تجاهل الحكومة هيئة “خدمات الصحة الوطنية” أقرضت السلطات مبالغ مشترطة سدادها مع الفائدة بدل التوصل إلى تسوية لائقة في شأن رواتب العاملين في تلك المؤسسة

يتخبط رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون في فضيحة مالية محورها شركة “غرينسيل” (أ ف ب)

جوناثان أشورث

في وقت أخذ فيروس كورونا يشدد قبضته على هذه البلاد العام الماضي، انهمك ديفيد كاميرون في بذل جهوده على طريقة جماعات الضغط، مع كبار مسؤولي هيئة “خدمات الصحة الوطنية” (إن إتش إس) ملتمساً مساعدتهم في شأن يخصّ آخر مشاريع “غرينسيل” المتمثل في برنامج مثير للارتياب يتضمن تقديم مال على شكل سُلَف على الرواتب للممرضين وكوادر الـ”إن إتش إس” الآخرين، ما يسمح لهم الحصول على جزء من الراتب قبل موعد استحقاقه.

إن هذا أمر صادم لسببين، يتمثل الأول في أنه شتّت انتباه الـ” إن إتش إس” وشغلها عن معالجة الجائحة وإنقاذ الأرواح. ويتجسد الثاني في أن هذا المخطط قد أُقر استخدامه من قبل الـ”إن إتش إس” قبل أشهر قليلة من توصية الوزراء في النهاية بخفض الأجور الحقيقية (أي الرواتب من حيث قيمتها الشرائية) لكوادر الـ”إن إتش إس”.

وقُدّمت خطة شركة “غرينسيل” المالية التي من شأنها أن توفر سُلفاً مالية للممرضين وكوادر الـ”إن إتش إس”، بوصفها نوعاً من الأعمال التي يفضل المشرفون عليها الآخرين على أنفسهم. ومن خلال تقديم مبلغ يُدفع يومياً لكوادر الـ”إن إتش إس”، نقل كاميرون إلى الناس أن ذلك المشروع “يعالج واحدة من أولوياتنا الأساسية، هي تعزيز الرعاية الاجتماعية للعاملين في خدمات الصحة الوطنية ومعنوياتهم ورفاهيتهم”. وبدت مهيبة أيضاً مزاعم رئيس الوزراء الأسبق المتعلقة بخطته للإقراض قبل يوم الدفع، إذ ذكر أن “لها قدراً من الأهمية المحتملة في المساهمة بتنفيذ الأولوية التي تتمثل في بذل كل ما نستطيع لمساعدة موظفي خدمات الصحة الوطنية في الوقت الراهن”. وفي المقابل، فإن كاميرون، وليس طواقم التمريض، مَن كان مرشحاً بقوة لتأمين ربح غير متوقع يوم الدفع.

لقد تمثّلت الغاية من الخطة في تفريغ دفتر القروض، إذ ستعمد “غرينسيل” إلى تأمين القروض، وتضعها في حزمة بهدف بيعها للمستثمرين، وجني ربح ضخم وسريع من سندات كان يرجّح أنها ضئيلة القيمة من الناحية العملية. وهناك أوجه تشابه محزنة ومخيفة معاً، بين هذه الحالة وبين بيع نوع آخر من القروض، هي الرهون العقارية عالية المخاطر التي أثارت الأزمة المالية العالمية في 2008.

وبدا مفترضاً أن تتمدد خطة “غرينسيل” كي تشمل قطاع الرعاية الاجتماعية أيضاً، الذي يتقاضى العاملون فيه أجوراً قليلة، وغالباً ما يعملون على أساس عقود صفرية (لا تُلزم رب العمل تشغيل المستخدم أي حدٍّ أدنى من الساعات)، وكذلك لا ينطبق عليهم  ذلك العرض غير الربحي المفترض [خطة “غرينسيل”]، نظراً إلى أن السوق [في قطاع الرعاية الاجتماعية] مجزأة ومؤلفة من مزوّدي خدمات من القطاع الخاص.

لم يقتصر الأمر على ظهور هانكوك بمظهر من يعطي ضوءاً أخضر لخطة إقراض غير أخلاقية، بل لقد ذكر كاميرون لاحقاً أنه “بحسب ما يمكنك أن تتخيل، إن مات هانكوك… إيجابي للغاية بشأن هذا العرض المبتكر”. لقد تمثّل مفتاح نجاح الخطة في عقد شراكة بين “غرينسيل” و”خدمات الأعمال المشتركة” التابعة لهيئة “خدمات الصحة الوطنية”، إذ شكّلت الأخيرة جهة في غاية الأهمية بالنسبة إلى “غرينسيل” وكاميرون، لأنه بوسعها كمزود لخدمات كشوف الرواتب للمستشفيات، أن تقدّم آلاف الأسماء، إلى جانب البيانات المالية التي استند إليها المخطط.

وعلى ذلك النحو، فُتحت الأبواب على مصراعيها بفعل اهتمام هانكوك الواضح. وفي الواقع، تعامل كاميرون مع قادة الـ”إن إتش إس” منذ اللحظة الأولى بأسلوب جماعات الضغط. فاجتمع بأبرز مديري تلك الهيئة، وكذلك وجّه رسائل نصية إلى المسؤولين، ونجح في نهاية المطاف في الحصول على دعم الـ”إن إتش إس” للخطة. واستُدرج كبار الشخصيات إلى اجتماع عقده رئيس “خدمات الصحة الوطنية في إنجلترا” اللورد بريور، وهو وزير سابق في حكومة كاميرون. ووصلت جهود الضغط إلى مستوى مرتفع إلى درجة أن اللورد بريور نظم اجتماعاً مع اللورد ديدو هاردينغ وهو من حزب المحافظين، وكذلك صار السير ديفيد دالتون، رئيس صندوق ائتمان الـ”إن إتش إس” السابق، مستشاراً يتقاضى أجراً بهدف ترويج التطبيق [الذي صنعته “إن إتش إس” لتقصّي وتتبّع مصابي كورونا] إلى صناديق ائتمانية.

وشكّلت وحدة الـ”إن إتش إس إكس”، وهي الذراع الرقمية لهيئة “خدمات الصحة الوطنية” يناط بها دعم المستشفيات تقنياً، وكذلك تطوير التكنولوجيا التي يمكنها أن تساعد على إبقاء الجائحة تحت السيطرة، [شكّلت تلك الوحدة] الجهة التي جرى استدراجها تالياً بواسطة الرسائل التي وجّهها كاميرون عبر البريد الإلكتروني. وخلال دقائق من تلقّيها اتصالاً من رئيس الوزراء السابق، أكدت تلك الوحدة أنها “ستنظر بالتأكيد في مسائل سجلات الموظفين الرقمية”.

وفي نهاية المطاف، تعني تلك الأمور كلها أن السجل الرقمي لموظفي الـ”إن إتش إس” وهو سجل موارد بشرية وكشوف رواتب متكامل للخدمات الصحية بكاملها ويضم بيانات 1.3 مليون شخصاً، قد بدأ العمل مع “غرينسيل” بهدف تسهيل عملها. وانخرطت عشرات الصناديق الائتمانية  الخاصة بـ”إن إتش إس” في مخطط يوم الدفع الذي قدّمه كاميرون، وذلك في الوقت الذي لم يكن ينبغي على الإطلاق أن تنشغل بذلك عن بذل الجهود الرامية إلى السيطرة على الجائحة.

لقد زعم كاميرون في إحدى الرسائل التي وجّهها بالبريد الإلكتروني أن الرؤساء التنفيذين للصناديق الائتمانية الذين تواصل معهم حينها، كانوا “إيجابيين للغاية” بخصوص هذا العرض “المبتكر”. وربما قضى ما لا يقل عن 30 من الصناديق الائتمانية شطراً من وقتها الثمين في دراسة موضوع تبنّي هذا المخطط الذي لم يخضع للتجربة بعد، مع ملاحظة أنه مخطط لم يكن ليصبح ضرورياً لو أن الممرضين وموظفي الـ”إن إتش إس” الآخرين نالوا زيادات الأجور التي يستحقونها. واستطراداً، جرى استغلال الساعات التي توجّب توجيهها إلى مكافحة الوباء، في محادثات تركزت على طبيعة المخطط [الذي تقدمت به “غرينسيل”].

وفعلت تلك الصناديق الائتمانية ذلك [إنفاق الوقت على دراسة مخطط “غرينسيل”] لأنها استسلمت لجماعة الضغط التي تمثلت في كاميرون و”غرينسيل”، لا سيما أن هانكوك فتح لهما الباب. وهكذا، لقي ذلك المخطط مباركة من كبار قادة الـ”إن إتش إس” في أنحاء البلاد كافة، والتقوا ممثلي “غرينسيل”. وحدثت تلك الاجتماعات مع صناديق الائتمان في لندن وإيسيكس وسالفورد. وبعد الاشتراك في اختبار المخطط، ذكر المدير التنفيذي لـ”رويال فريي”، وهو واحد من أكبر الصناديق الائتمانية في البلاد، “ولماذا قد لا تودّ أن تستعمله؟”.

وثمة تساؤلات عن عدد قادة الـ”إن إتش إس” ومسؤوليها الذين ضغط عليهم كاميرون و”غرينسيل”. وكذلك ليس معروفاً ما مجموع الصناديق الائتمانية الخاصة بـ”خدمات الصحة الوطنية” التي عُرض عليها ذلك المشروع، الذي شكّل في حقيقة الأمر نوعاً من الربى.

ونظراً إلى ان عدداً من المسؤولين تعاطوا مع جهود جماعة ضغط تعمل بدوافع تجارية، فإن إجابات الأسئلة الأكثر خطورة في هذا السياق يجب أن تصدر في نهاية المطاف عن الوزير هانكوك، إذ تتصل تلك الأسئلة بإشرافه على جهود الضغط تلك، والدور الذي لعبه في إطارها. وحاول الوزير لدى استجوابه في مجلس العموم أخيراً، أن يتجنب التدقيق في هذه القضية، مدّعياً أن تلك القرارات تخص الصناديق التي اتخذتها بصورة حصرية. وفي المقابل، لم يستطِع هانكوك أن يشرح لماذا وصفه كاميرون، وكذلك صناديق الائتمان، بأنه كان “إيجابياً للغاية”.

والأدهى أن فضيحة “غرينسيل” ليست الواقعة الوحيدة التي تنطوي على مخالفات يُتهم هانكوك بارتكابها. وقد طلبت منه [أثناء استجوابه] في مجلس العموم أن يبلغ النواب عن سبب عدم إعلانه رسمياً عن العلاقات التي تربطه شخصياً مع شركة ” توبود” لتمزيق المستندات، التي استمرت في استعمال شعار الـ”إن إتش إس” على موقعها الإلكتروني بهدف ترويج نفسها، حتى ليلة الجمعة قبل الفائتة (حين أُزيل بصورة تثير الفضول). وسأكتب إلى كل لجان التحقيق حول فضيحة “غرينسيل” طالباً منها تحديداً معاينة الدور الذي لعبه وزير الصحة فيها ودوره الشخصي في جهود جماعات الضغط على هيئة “خدمات الصحة الوطنية” خلال الجائحة.

ويبقى سؤالان لا يستطيع سوى كاميرون ومقرضي الأموال الذين كان يمثّلهم، أن يجيبوا عنهما. ويتمثل الأول في السؤال الذي توجّب على هانكوك أن يسأله لنفسه في البداية: ألم يكن من الأفضل لو أن هؤلاء المعنيين دافعوا عن تسوية لائقة بشأن رواتب موظفي”خدمات الصحة الوطنية”، بدلاً من إقراض الممرضات مالاً يجب تسديده لاحقاً مع الفائدة؟

ويتجسد السؤال الآخر في سبب تفكيره (كاميرون) أثناء أزمة وطنية، وفي وقت كان الفيروس يخرج عن السيطرة مرة أخرى، أن يطلب من الـ”إن إتش إس” أن تعطيه هو وفريقه من المضاربين الساعين إلى الثراء السريع ممن يرغبون بجني المال من خلال الجائحة، الأولوية فتساعدهم قبل مساعدة أولئك الذين كانت حياتهم في خطر.

* جوناثان أشورث هو وزير الصحة والرعاية الاجتماعية في حكومة الظل ونائب دائرة ليستر ساوث عن حزب العمال (والحزب التعاوني)

© The Independent

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى