الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق يبلغ في لبنان أكثر من 700%، وما بينهما تأتي أسعار صرف مُتعدّدة اخترعها مصرف لبنان بحجج مُختلفة، كسعر المنصة المُحدّد بـ3900 ليرة للدولار، و«منصّة الصرافة» للقطاع المصرفي التي يُفترض أن تبدأ العمل في الـ4 من أيار المُقبل، وتنطلق من سعر صرف 10 آلاف ليرة لكلّ دولار. يجعل ذلك من لبنان حالة فريدة في العالم مالياً؛ فعوض أن يبحث مصرف لبنان في كيفية تقليص الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق، يتخذ قرارات بتحديد أسعار صرف جديدة. هذا التخبّط يجري بإدارة حاكم البنك المركزي رياض سلامة، المُستمر في أداء وظيفته رغم الملفات القضائية بحقّه وشُبهات اختلاس وتبييض الأموال، وعدم نكرانه (في حديثه الأخير إلى صحيفة «فايننشال تايمز») توقيعه عقود عمل بين مصرف لبنان وشقيقه رجا سلامة. هذا الكلام وحده كافٍ لتطيير مصارف المراسلة والمؤسسات المالية التي تتعاون مع البنك المركزي، وترسم علامات استفهام جمّة حول طريقة عمله.

منذ شهر، ومصرف لبنان يُسرّب معلومات عن موعد لإطلاق منصة الصرافة للقطاع المصرفي، ثمّ يؤجّل «الافتتاح» من دون توضيح الأسباب. ويوم أمس، أعلن سلامة موافقة المجلس المركزي لمصرف لبنان على التعاميم المتعلقة بالمنصة، مشيراً إلى أن «هذه التعاميم ستُبلَّغ عند إنجازها الى ​وزير المالية​، للعمل بالتنسيق معه على إطلاق هذه المنصة، وذلك ابتداءً من الأسبوع المقبل».
على مدى شهر، جرى التذرّع بأسباب تقنية ولوجستية، فيما الحقيقة أنّ المصارف «الكبيرة» ترفض أن تضخ دولاراً واحداً في هذه المنصة. ففي الأشهر الماضية، ضاربت المصارف في سوق الدولار، وباعت شيكات بأقل من 27% من قيمتها، لتقوم بـ«تهريب» الدولارات إلى الخارج تحت ستار «الالتزام بتأمين سيولة 3% في الحسابات لدى المصارف المُراسلة في الخارج». لذلك، لن تقبل اليوم أن «تتخلّى» عن الدولارات وتبيعها للمستوردين. تقول مصادر مصرفية إنّ «المصارف التي تملك الحصة السوقية الأكبر هي التي رفضت المشاركة في المنصة. أما الأخرى، من التي لم تستطع تأمين سيولة الـ3% (من الودائع بالعملات الأجنبية) التي فرض مصرف لبنان تكوينها في حسابات في الخارج، فقد أعلنت استعدادها للمُساهمة في الدولارات». أما مصرف لبنان، فيُراهن على قُدرته على التدخّل بيعاً للدولار وشراءً لليرة «ليُحافظ على توازن مُعيّن في السوق»، علماً بأنّ البعض يُقلّل من قدرته على ضبط الإيقاع بعد الآن. تنفي المصادر أن يكون سلامة يتهرّب من إطلاق المنصّة، حتى ولو كان في البداية غير متحمّس لها، «فهو يُعوّل عليها أيضاً لمراقبة عمليات السوق، ومن هم المستوردون والتجار الذين يشترون الدولار وبأي كميات. وتبقى المنصة أفضل من الفوضى بالنسبة إليه».

التجربة اللبنانية تُفيد بأنّ رهانات سلامة ستخيب، هذا إن نجح أصلاً في إطلاق المنصة يوم الـ4 من أيار، لأنّ سياسات الترقيع، وبكلّ بساطة، لم تعد تنفع من دون أن تكون الإجراءات جزءاً من الرؤية الاستراتيجية للاقتصاد الكلّي.
بالتزامن مع إطلاق المنصة، برزت معلومات عن بحث سلامة في خيار «تعديل سعر منصة التعميم الرقم 151 والذي يسمح لأصحاب الحسابات بالدولار بسحب أموالهم وفق سعر صرف 3900 ليرة لكلّ دولار، وأن يرفعه إلى 10 آلاف ليرة بعد اعتماد البطاقة التموينية». وتُضيف المعلومات أنّها «ستكون المقدمة لتحرير سعر الصرف الرسمي، وجعله يراوح عند هذا المستوى». إلا أنّ مصادر مصرفية تنفي ذلك: «الأكيد أنّ الأمر غير وارد، فذلك يعني طبع المزيد من الليرات، وزيادة معدّلات التضخم، فيما واحد من أهداف رياض سلامة هو إعادة امتصاص العملة المحلية من السوق بعد أن بلغت 37 ألف مليار ليرة». لا تعديل – في المدى المنظور – بسعر منصة الـ3900، بحجة عدم ضخّ المزيد من الليرة في السوق، وهو السبب نفسه الذي تذرّع به سلامة لرفض اقتراح الاتحاد العمالي العام والضمان الاجتماعي وبقية الصناديق الضامنة، دفع التعويضات لمستحقيها وفق سعر 3900 ليرة. وقد اقترح سلامة عوض ذلك أن «تتحمّل الميزانية العامة هذه الزيادة وتُسجّلها كدينٍ عليها، ولكن لم يكن هناك اتفاق على ذلك أيضاً».
إذا صحّ عدم تعديل القرار الرقم 151، واستمرار سحب الودائع بالدولار وفق سعر 3900 ليرة، فذلك لا يعني أنّ القرار سينسحب على كلّ المستفيدين السابقين من الـ«151»؛ إذ تقول المصادر المصرفية إنّ رفع الدعم أو «ترشيده» سيغيّر سعر الدولار بالنسبة إلى منتجات السلّة الغذائية التي كانت تُستورد وفق 3900 ليرة/ دولار. فما سيُرفع عنه الدعم سيتحول سعر «دولاره» إلى سعر منصة الصرافة لدى المصارف، على أن يبقى «الدعم المُرشّد» في هذه المرحلة على استيراد المشتقات النفطية وبعض الأدوية والقمح.


«معهد التمويل الدولي»: توحيد سعر الصرف أساسيّ لاستعادة الاستقرار
نشر معهد التمويل الدولي في الـ21 من نيسان الجاري تقريراً حول أنظمة سعر الصرف ومحاولات توحيدها، عارضاً تجارب 12 دولة من أصل 22 دولة في العالم تُعاني من أنظمة صرف متعددة، وهي الجزائر، أنغولا، الأرجنتين، مصر، إيران، لبنان، نيجيريا، السودان، سوريا، تركمانستان، أوزبكستان، وزيمبابوي.
بالنسبة إلى لبنان، يعرض التقرير المؤشرات العامة، فيعتبر أنّ السبب في أنظمة الصرف المُتعددة يعود إلى غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي، مُشيراً إلى أنّ الانهيار الكبير في سعر العملة المحلية سببه فقدان الثقة بها، وبقدرة الدولة على تنفيذ برنامج اقتصادي شامل، والجمود السياسي، والأزمة المالية. وقد أدّى انهيار العملة «إلى تسارع معدّل التضخم السنوي لمؤشر الأسعار الاستهلاكية من 11% في شباط 2020 إلى 155% في شباط 2021». ويُشير التقرير إلى أنّه مع انخفاض الاحتياطي الإلزامي، «لن يتمكن مصرف لبنان من مواصلة دعم استيراد السلع الرئيسية»، رابطاً بين الانهيار في قيمة الإيرادات للخزينة العامة سنة 2020 و«استخدام سعر الصرف الرسمي (1515 ليرة) في حساب الإيرادات الضريبية، واستيراد المنتجات الرئيسية، والتي تمّ تهريبها جزئياً إلى سوريا».
ويخلص التقرير إلى اعتبار أنّ وجود سعر صرف موحّد يوازن بين العرض والطلب في سوق العملات الأجنبية «أمر بالغ الأهمية لاستعادة الاستقرار الكلّي وتعزيز الاستثمار والنمو، وتحسين ميزان المدفوعات. كما يُعزّز التنافسية والشفافية واستقلالية البنوك المركزية وتقليل الأنشطة الريعية». وينصح التقرير بأن يكون توحيد الأسعار مُنسّقاً مع السياسات المالية والائتمانية الأساسية.