8 مليارات و719 مليون دولار هي صافي خسائر القطاع المصرفي في لبنان لعامَي 2019 و2020 والأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021. الأرقام ضخمة، أهميتها أنّها تُثبّت الواقع المرير الذي أوصلت المصارف نفسها إليه، وبأنّ الـ20% زيادة على رأسمالها التي فرضها البنك المركزي لن تكون كافية لتغطية الخسائر، هذا قبل التفكير في وضع خطط نهوض وتفعيل العمل المصرفي.

حجم الخسائر ليس نهائياً، والتقديرات تُشير إلى أنّه يتخطّى الـ8 مليارات دولار، فأرقام الفصل الأول من عام 2021 (3.4 مليارات دولار) تُعدّ مؤشّراً على النسب التي ستُسجّلها الفصول اللاحقة. إضافةً إلى أنّ المصارف قد لا تكون صرّحت عن كامل الخسائر التي تعرّضت لها، مُختارةً تقسيطها على سنوات عدّة، وعدم احتسابها دُفعةً واحدة. في كلّ الأحوال، تتقاطع أرقام الخسائر مع الورقة التي نشرتها قبل أيام وكالة «ستاندرد أند بورز» الائتمانية بأنّه حتى ولو أمّنت المصارف زيادة الـ20% والـ3% سيولة في حساباتها لدى المصارف المراسلة في الخارج، «من غير المُرجّح أن يؤدّي ذلك إلى استقرار القطاع المصرفي»، فالحجم الحقيقي لخسائر البنوك لن يظهر فعلياً «إلا بعد إعادة هيكلة الدين العام»… وقد بدأ رأس جبل الجليد بالظهور في صيف عام 2019، أي قبل أشهر من انطلاق انتفاضة «17 تشرين»، ما ينفي مزاعم حزب المصرف في الربط بينها وبين الانهيار المالي والنقدي. السياسات الاقتصادية والمالية التي اعتُمدت لم تكن ستوصل إلّا إلى هذه النهاية، وكانت مسألة وقت فقط قبل انفجار الأزمة.
أتت موازنات المصارف التجارية لـ«تُصوّب» النقاش، وتحسم بأنّ «سنة 2019 كانت سنة الانهيار النقدي بعد 22 عاماً من استقرار العملة. هي نقطة تحوّل جوهرية»، وفق التقرير المالي الصادر عن «بنك داتا». وقد تبيّن أنّ المصارف تكبّدت ملياراً و891 مليون دولار خسائر عام 2019، مقارنةً مع أرباحٍ بلغت 2 مليار و456 مليون دولار سنة 2018. أما حقوق المساهمين فقد تراجعت من 24.752 مليار دولار سنة 2018 إلى 20.829 مليار دولار في العام التالي.«من يُخفِ علّته تقتلْه»… وهذا ما حلّ بالقطاع المصرفي. عدم اتخاذ مصرف لبنان إجراءات حاسمة وجدّية لمعالجة الخسائر، لا بل العمل على دسّها تحت السجادة تارةً عبر ما يُسمى «هندسات مالية» وطوراً عبر تعاميم إنقاذية، أدّى إلى تضخّمها بشكلٍ مسح رساميل بعض المصارف من الفئة الأولى. فوفق أرقام مصرف لبنان غير الرسمية، والتي حصلت «الأخبار» على نسخةٍ منها، بلغت خسائر القطاع المصرفي لسنة 2020 نحو 5.03 تريليون ليرة، أو 3.3 مليارات دولار. وهو تقريباً الرقم نفسه المطلوب أن تأتي به المصارف لزيادة 20% على رأسمال. إلا أنّ الـ3.3 مليارات دولار لا تعكس الخسائر الفعلية، لأنّ أكثرية المصارف أجّلت احتساب المؤونات على شهادات الإيداع لدى «المركزي» (حدّ أدنى 1.89%) وسندات الدين بالعملات الأجنبية (حدّ أدنى 45%)، مُستفيدة من السماح لها بتقسيطها على 5 سنوات. أخذت التطورات منحى أكثر سوداوية لدى المصارف هذه السنة، مع بدء تكوين المؤونات، فبلغت الخسائر لغاية 31 آذار 2021 عتبة الـ5.2 تريليون ليرة، أي 3.4 مليارات دولار. ثمّة مصارف كوّنت مؤونات على سندات الدين بالعملات الأجنبية، («يوروبوندز»)، وصلت إلى 70%، و12% على شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان، ما يُعدّ أول اعتراف واضح بعمق الأزمة.

يندر أن «ينجو» مصرف من هذا المصير المحتوم، ولكن 7 من أصل 35 مصرفاً تجارياً، سجّلت خسائر في عام 2020 وبداية عام2021 تخطّت أموالها الخاصة – المُفترض أن تُستخدم في الحالات الطبيعية لتعويض النقص – وهي: فيدرل، مصر ولبنان، سرادار، الموارد، سيدروس، سوسييتيه جنرال، والبحر المتوسط. الأسماء المذكورة ليست «أيّاً كان» في القطاع، بل مصارف من الفئة الأولى تحتل مساحة واسعة من السوق، و«مُدلّلة» لدى حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة. لأجل مصرف البحر المتوسط – المملوك من رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري، افتتح سلامة سنة 2014 عمليات نقل الثروة من المال العام إلى جيبة حُفنةٍ من المُساهمين المُفلسين، عبر منحهم أموالاً عامة مجاناً. أُطلق على العملية اسم «هندسة مالية» لإضفاء طابع «علمي» عليها وإخفاء أنّها عملية نقل المال العام إلى حسابات أفراد محددين، استفادت منها غالبية المصارف الكبرى، ولا سيّما مصرف الحريري و«سوسييتيه» و«سيدروس» و«الموارد».

كلّ محاولات انتشال المصارف من إفلاسها لم تمنع تبديدها أموال المودعين، وتسجيلها خسائر حوّلت أموالها الخاصة إلى «السلبي». ويُعدّ الـ«سوسييتيه جنرال» والبحر المتوسط، أكثر مصرفين مُتضررين مالياً. فالأول سجّل سنة 2020 خسائر بـ862 مليون دولار فيما أمواله الخاصة هي 827 مليون دولار. ليس الوضع أفضل في بداية 2021، مع بلوغ خسائر الـ«سوسييتيه» 847 مليون دولار، وتراجع أمواله الخاصة إلى 815 مليون دولار. أما بالنسبة إلى بنك البحر المتوسط، فسجّل حساب الأموال الخاصة لديه سنة 2020 نقصاً بـ79 مليون دولار أميركي، مقابل خسائر بـ925 مليون دولار. الخسائر ارتفعت إلى 964 مليون دولار حتّى 31 آذار 2021، مع بلوغ العجز في الأموال الخاصة قرابة الـ118 مليون دولار! ويُنقل عن مسؤولين في هيئة رقابية أنّ المساهمين في «البحر المتوسط» لا يملكون «دولاراً واحداً لضخّه في رأس المال وتعويض العجز». هذا المصرف المُنهار يملكه سعد الحريري، الذي يُنتظر منه تشكيل حكومة إنقاذ البلد من الانهيار!

المصدر: مصرف لبنان

تراكم الخسائر إلى هذا الحدّ، قد يؤدّي إلى ضرب نسبة الملاءة (ما يضمن قدرة أيّ مؤسسة على الإيفاء بالتزاماتها) ويوجب إعادة تكوينها. فإذا كانت الأموال الخاصة سلبية، وزيادة 20% على الرأسمال غير كافية، والخسائر تتعاظم، هل بوجود هكذا قطاع سينمو اقتصاد؟ ثمة احتمال أن يكون لدى المصارف «مصلحة» في تسجيل الخسائر وتظهير أنّها فقدت رساميلها، حتى لا تدفع المزيد من «الأتعاب». فالمعركة المقبلة، هي معركة من يُريد تحمّل كلفة إعادة هيكلة الدين العام وتخفيضه إلى ما دون الناتج المحلي حتّى يقبل صندوق النقد توقيع اتفاق مع لبنان. هذه المرّة أيضاً، تُريد المصارف – بغطاء سياسي ومن مصرف لبنان – تدفيع الناس.


أموال خاصّة سلبية
أربعة مصارف من أصل 35 مصرفاً تجارياً لم تتكبّد فقط خسائر كبيرة، بل سجّل حساب الأموال الخاصة لديها عجزاً. فحتى 31 آذار 2021، كانت الأموال الخاصة لدى فيدرل بنك سلبية بمليار و200 مليون ليرة، و – 177 ملياراً و670 مليون ليرة لدى بنك البحر المتوسط، و – 22 ملياراً و97 مليون ليرة لدى بنك الموارد، و – 26 ملياراً و974 مليون ليرة لدى سيدروس. أما السنة الماضية، فكانت نسبة العجز في أموال بنك البحر المتوسط الخاصة 119 ملياراً و812 مليون ليرة، و – 22 ملياراً و828 مليون ليرة لدى بنك الموارد، و- 27 ملياراً و253 مليون ليرة لدى سيدروس.