لم تفرح النبطية وبلداتها كثيراً بعد تحريرها من الاجتياح الإسرائيلي عام 1985. اندحر العدو وعملاؤه من شوارعها وتمركز فوق تلالها ليمارس احتلالاً لا يقل قساوة، ليتحكّم بالتفاصيل اليومية للأهالي. قمم الجبال الفاصلة بين قضاء النبطية المحرر وقضاء مرجعيون المحتل، تحولت إلى مواقع عسكرية تطال كل صغيرة وكبيرة من النبطية وصولاً إلى الساحل: الدبشة وعلي الطاهر وقلعة الشقيف «احتلت» النبطية طوال 15 عاماً حتى التحرير عام 2000. قصفت وقنصت وقتلت وهدمت وتسببت بإعاقات وندوب لا تزال تنغل.
ضحايا مجزرة باص النبطية لا تزال جروحهم غائرة حتى الآن. في عيد الأم في 21 آذار 1994، فتحت الدبابات في موقع الدبشة فوق بلدة كفررمان فوهاتها لتطلق القذائف على كفررمان والنبطية وحبوش والنبطية الفوقا. إحدى القذائف أصابت حافلة تنقل 30 طفلاً من مدارسهم إلى بيوتهم. سقطت زينب سليمان (13 عاماً) شهيدة تحت مقاعد الباص وجرحت أختها كرم التي فقدت عينها وأخواها خضر وقاسم وأبناء عمها. كما استشهد الطفل قاسم وهبي (14 عاماً) وجرح أشقاؤه.
بعد 21 عاماً على تحرير الجنوب، تعيش مريم حطيط بين صور طفلتها الشهيدة زينب والشظايا التي لا تزال تنتشر في أجساد أولادها كرم وخضر وقاسم. قبالة منزلها في النبطية، تلوح أطلال موقع الدبشة. من الممكن أن تتقلص مساحة المجزرة الماثلة أمامها كلما ارتفعت المباني فوق أنقاض الدبشة وعلي الطاهر. من الممكن أن تتغاضى مريم عن طيف القذائف كلما علا البنيان والجنائن لتمحو أثر العدو. تملك هناك فوق تلة الطهرة ثأراً حصّلت جزءاً منه بالتحرير عام 2000 وسوف تسترد باقي ثأرها بإبادة اسرائيل من الوجود. لكن جزءاً يسيراً من الثأر من دبابة الدبشة، حققته لها صديقتها الطبيبة ليلى نور الدين التي كانت أول من شيّد منزلاً بين أنقاض موقعَي الدبشة وعليّ الطاهر كتحدٍّ للعدو الذي اندحر. لمريم وليلى ذاكرة مشتركة من يوم مجزرة الباص. كانت مريم مربية في الحضانة التي أودعت فيها ليلى ابنها مروان. عند اشتداد القصف، انشغلت مريم بتهدئة روع الأطفال ومنهم مروان. في قرارة نفسها، تدعو الله بأن يسلّم أطفالها، ظَناً منها بأنهم لا يزالون في المدرسة. حضرت ليلى وتسلّمت طفلها سليماً مطمئناً بين يدي مربيته مريم. غادرت الأخيرة إلى منزلها لتنتظر عودة أطفالها وإذا بها تشاهد الباص الأصفر قبالة منزلها.

ليلى وزوجها الطبيب مصطفى حمزة كانا على يقين بأن اسرائيل ستندحر. لذلك، اشتريا ــــ منذ ما قبل التحرير ــــ عقاراً بين الدبشة وعلي الطاهر، مشرفاً على سهل الميدنة. بالرغم من غياب البنى التحتية عن العقار بعد التحرير، واجها الصعوبات بإصرار ليتمكنا سريعاً من السكن على أطلال العدو الهارب. شيّدا منزلاً حجارته صخرية «ليتحمل القصف ويصمد أمام الهدم» قال حمزة. شقّا طريقاً واستحدثا قنوات لتجميع مياه الشتاء ونصبا مروحة لتوليد الطاقة على الهواء ومن الطاقة الشمسية. حمزة نشأ على العيش في فم العدو. ولد في حي ثكنة الجيش المهجورة بين النبطية وكفررمان التي كان اسمها يتردد يومياً في لائحة المواقع المستهدفة بالقصف الإسرائيلي طوال حقبة الاحتلال. مع ذلك، لم تترك عائلته وأقرباؤه يوماً منازلهم. «كنا نعيش حياة طبيعية. نتكهن متى سيبدأ القصف، ومع الوقت خبرنا أي نوع قذيفة أطلقتها الدبابات من فوق رؤوسنا في المواقع وأين ستسقط»، قال حمزة.
رفع حمزة ونور الدين موقعهما الثالث بين الدبشة وعلي الطاهر. يشرفان على النبطية وسهل الميدنة وقلعة الشقيف وكفرتبنيت. في الأجواء، تنبعث حكايا المعاناة، ويتراءى طيف صفية طاهر التي رفض العدو إدخال جنازتها عبر معبر كفرتبنيت لأن حفيدها مقاتل في المقاومة، فدفنت في شقراء. حكايا تبددت منذ عشرين عاماً كلما ارتفع العمران فوق التلال المحروقة.