الحدث

انتفاضة الحجارة والصواريخ

الأخبار- وليد شرارة

صواريخ غزة تُمثّل سلاحاً رادعاً لحماية المنتفضين ضدّ التطهير العرقي في حيّ الشيخ جراح والقدس. هذه هي المعادلة التي تسعى فصائل المقاومة الفلسطينية إلى تثبيتها حالياً، في سياق صراعها المديد مع المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني. لجوء جيش الكيان الغاصب إلى قصف مجنون وواسع النطاق لقطاع البطولة والصمود، وارتكابه المجازر بحق السكّان العزّل، وتوعّده بالمزيد، يشي بإدراك قيادته للخطورة القصوى الناجمة عن نجاح المقاومة الفلسطينية في فرض المعادلة المذكورة، وهو ما سيمثّل منعطفاً حاسماً في مسار المواجهة مع سياسة الإرهاب الاستعماري المنظّم والتطهير العرقي، المعتمَدة من قِبَل الحركة الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني، والتي أدّت إلى تأسيس الكيان في عام 1948، واحتلال الضفّة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، ومن ثمّ الشروع في الاستيلاء التدريجي، وعلى نار هادئة، على ما تبقّى من الأرض الفلسطينية، عبر الاستيطان والضم والتهجير.

ما يجري في حيّ الشيخ جرّاح يعيد التذكير بالطبيعة الجوهرية للصراع الدائر في فلسطين بين شعبها والمشروع الصهيوني، باعتباره صراعاً على الأرض. كان المبدأ الذي حكم سياسات جميع الحكومات الصهيونية، اليسارية واليمينية، منذ عام 1967، هو «أرض أكثر وعرب أقلّ»، وذلك قبل بداية مسار السلام المزعوم، في مدريد وفي «اتفاق أوسلو»، وبعده، وهو ما أفضى أيضاً إلى فشل هذا المسار واندلاع انتفاضة الأقصى، في أواخر أيلول / سبتمبر 2000. أطلق الشعب الفلسطيني انتفاضة الحجارة في عام 1987، ومن ثمّ انتفاضة الأقصى في عام 2000، التي سرعان ما تحوّلت إلى مواجهة مسلّحة مع الاحتلال استمرّت حتى عام 2003، لكن موازين القوى الإجمالية، المحلّية والإقليمية والدولية، لم تُتِح للشعب الفلسطيني تحقيق أهدافه الوطنية، باستثناء فرض الانسحاب على جيش الاحتلال ومستوطنيه من قطاع غزة، في عام 2005. لكن ما نراه اليوم من استخدام مبدع لمختلف أشكال النضال والربط في ما بينها، من أبسطها، وهو التظاهر ورمي المحتلّين بالحجارة، مروراً بالعمليات العسكرية والكمائن ضدّهم، وصولاً إلى إطلاق الصواريخ من غزّة دفاعاً عن أهالي الشيخ جراح وعن المرابطين في الأقصى، في ظلّ موازين قوى إجمالية تشهد تحوّلات متسارعة لغير مصلحة العدو وحلفائه، قد يكون بداية لانتفاضة ثالثة تسمح بداية، وتحت ضغط صواريخ المقاومة وعملياتها، بوقف التطهير العرقي، وتُعبّد الطرق أمام تحقيق هدف الحد الأدنى الوطني المشترك بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية، وهو دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط، ومن دون تفاوض أو اعتراف، عن جميع الأراضي التي احتُلّت في عام 1967.
مع الاختلاف الكبير في الظروف، وفي درجة صعوبتها، فإن المعادلة التي تحاول المقاومة الفلسطينية اليوم تثبيتها في معركتها مع الكيان الصهيوني تُذكّر بتلك التي نجحت المقاومة الإسلامية في لبنان في فرضها على قوات الاحتلال في عام 1996، بعد عدوان إسرائيل على لبنان في نيسان من ذلك العام، والذي سمّته «عناقيد الغضب». مثّل اتفاق نيسان، الذي نصّ على تحييد «المدنيين من الجهتين»، وحصر المعركة بين المقاومة وقوات الاحتلال، نقطة تحوّل في مجرى الصراع؛ إذ أفقد الثانية ورقة الضغط الرئيسة التي استعملتها دائماً ضدّ جميع حركات المقاومة، وقاد في ما بعد، نتيجة لتصاعد ضربات المقاومة النوعية، إلى انسحاب العدو المذلّ، في أيار/ مايو 2000. غير أن الهدف الراهن في فلسطين لا يتلخّص في تحييد المدنيين من الطرفين، أو وقف القصف على غزّة في مقابل وقف قصف مستوطنات الكيان، بل في وقف التطهير العرقي في حيّ الشيخ جراح. هذا الهدف، الذي يمسّ المشروع الصهيوني في الصميم، هو العنصر الجديد والخطير بنظر قادة الكيان، وما قد يدفعهم إلى ارتكاب المزيد من المجازر في غزة. فتمكّن المقاومة الفلسطينية من فرض معادلة، يتمّ وفقاً لها وقف التطهير العرقي في «الشيخ جراح» مقابل وقف القصف على الكيان، سيؤدّي بالضرورة إلى اتّباع النهج نفسه في المناطق الأخرى التي تتعرّض للتطهير العرقي والاستيطان والضمّ في القدس والضفة الغربية. سيجد الاحتلال الصهيوني نفسه أمام «سابقة الشيخ جراح»، القابلة للتكرار، والتي ستسرّع اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفّة لن تَقوى سلطة التنسيق الأمني على الوقوف في وجهها. وما يزيد من فرص تحقيق النصر حالياً، هو تغيّر موازين القوى الإجمالية، الدولية والإقليمية والمحلية، لمصلحة الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة، على عكس الظروف التي سادت عند اندلاع الانتفاضتين الأولى والثانية، وكان لها إسهام كبير في هزيمتهما.
أوّل تحوّل هو انحدار الهيمنة الأميركية واتجاه الولايات المتحدة إلى التركيز على أولوية مواجهتها مع الصين وروسيا، وتراجع أهمية المنطقة وقضاياها بالنسبة إليها، وصعود دور قوى دولية كروسيا والصين لا تربطها علاقات عضوية بإسرائيل، كتلك التي تجمعها بالولايات المتحدة، وعبّرت أخيراً عن معارضتها لسياسات التطهير العرقي والعدوان التي تقوم بها. ثاني تحوّل، هو تعاظم قوة وقدرات أطراف محور المقاومة، الذي يقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية ويمدّها بالإمكانات والخبرات، وضمور تأثير ونفوذ جميع حلفاء الولايات المتحدة العرب. ثالث تحوّل، هو ما أظهرته آخر الحروب المتتالية، منذ عام 2006 وصولاً إلى عام 2014، من ضعف في القدرات القتالية للجيش الصهيوني، والذي يتلازم مع أزمة بنيوية في النظام السياسي الإسرائيلي تمنع تأليف حكومة قابلة للحياة لأكثر من بضعة أشهر. مجمل هذه التحوّلات يؤشّر إلى حقيقة أساسية، وهي أن الطرف المسيطر بدأ يضعف، وهذا هو الشرط الرئيس، بناءً على غالبية تجارب حركات التحرّر ضدّ الاستعمار، لثورة الطرف الأضعف ضدّه وانتصاره عليه. ولا شك في أن احتدام المواجهة في فلسطين سيؤجّج التوتر في الإقليم، والذي تسعى إدارة جو بايدن إلى «تخفيضه»، انطلاقاً من أجندتها الدولية، ما سيزيد من إرباكها وحلفائها الأوروبيين والعرب، ويضعهم في موقف محرج جدّاً في دعمهم للكيان الصهيوني، بينما سيقود صمود الشعب الفلسطيني في وجه العدوان والمجازر، واستمرار إمطاره للكيان بالصواريخ، إلى اتّساع نطاق المواقف المؤيّدة له والمراهنة على إمكانية الإفادة من التأزّم في المنطقة للعب دور سياسي مستقلّ، أو حتى معادٍ للدور الأميركي.
عندما تحدّث القائد الفلسطيني الشهيد، ياسر عرفات، أمام منبر الأمم المتحدة، قال مخاطِباً العالم: «أنا أحمل البندقية بيد، وغصن الزيتون باليد الأخرى. لا تدعوني أُسقط غصن الزيتون من يدي». لقد سقط غصن الزيتون. شعب الجبّارين يحمل الحجر بيَد، والصواريخ والسلاح بيَد أخرى، ومهما غلت التضحيات، فإنّ القدس بلا ريب باتت أقرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى