قبل أسبوعين، دخل إعلان وقف إطلاق النار في غزة حيّز التنفيذ، بعد عدوان إسرائيلي استمرّ على مدى 11 يوماً، أطاح بالبشر والحجر. معركة «سيف القدس» التي خاضتها المقاومة الفلسطينية، عرفت هذه المرّة زخماً مختلفاً، مع التعاطف الهائل الذي حصدته عالمياً، وبروز أصوات تنطق للمرة الأولى باسم فلسطين ولأجل قضيتها العادلة. ولا شكّ في أنّ النيو ميديا أسهمت بشكل أساسي في إعلاء الصوت وفضح ممارسات كيان الاحتلال رغم التضييق الهائل الذي مارسه عمالقة الشركات التكنولوجية. وقد ساهمت أيضاً في تحطيم خطاب التطبيع الذي خرج رسمياً على شاشات الخليج العام الماضي، مع تدشين الإمارات وبعدها البحرين والسودان علاقاتها مع «إسرائيل»، وفتح السفارات وعقد اتفاقيات التعاون الثقافي والتعليمي والتكنولوجي والإعلامي. هكذا، ضربت المعركة الأخيرة في الأراضي المحتلة، المنظومة التي اشتغلت عليها دول التطبيع، طيلة أعوام، عبر تغييب القضية الفلسطينية من التداول، وأنسنة الاحتلال، إلى جانب الانخراط في «صفقة القرن» الأميركية. وبهذا، عادت المنصّات الإعلامية الخليجية والإماراتية تحديداً إلى نقطة الصفر، بعدما حوّلت نفسها إلى بوق صهيوني طوال العدوان على غزة، وساندت الاحتلال في قتله للمدنيين الفلسطينيين وتهديمه للبنى التحتية، وجنّدت منابرها لتظهير الدعاية الإسرائيلية. معركة «سيف القدس»، أضاعت كل «جهود» المطبّعين الذين خرجوا من هذه المعركة خالي الوفاض، فيما انتشرت نشوة النصر على وجوه الغزيين والمقدسيين، فرحاً بما حققته المقاومة من فرض لمعادلات جديدة أجبرت الاحتلال على وقف إطلاق النار، ولملمة خيباته سريعاً.

تطبيع الإمارات
الإمارات التي كانت أول من دشن حفلات التطبيع في آب (أغسطس) الماضي، تخوض اليوم حلقة تطبيع من نوع آخر منذ بداية العام الحالي، وعملت على تكثيفه في الأسابيع الأخيرة، مع تعديل نظام الإقامة ومنح فنانين ووجوه بارزة من ميادين فنية ورياضية مختلفة الإقامة الذهبية أو حتى الجنسية الإماراتية. هكذا كرّت سبحة الفنانين من الجنسيات السورية واللبنانية والمصرية وحتى العراقية، الذين حصلوا على الإقامة الذهبية في الإمارات التي تخولهم دخول البلاد والإقامة هناك من دون الحاجة إلى كفيل إماراتي، على مدى 10 أعوام قابلة للتمديد. ويُمنح الحاصل على الجنسية الإماراتية امتيازات أكبر، تعادل حقوق المواطن الإماراتي. هكذا، على مدى أكثر من خمسة أشهر، بدأت أسماء النجوم تتوالى على مسامعنا، ممن حصلوا على الإقامة الذهبية في الإمارات، بدأت مع الممثل المصري محمد رمضان، وانتقلت إلى نجوى كرم، راغب علامة، نيللي كريم، إيناس الدغيدي، وبوسي شلبي، وناصيف زيتون، ومروان خوري، وهالة سرحان، وليلى العبدالله، وكاريس بشار، وسيف نبيل، وتيم حسن، ووفاء الكيلاني، وقصي خولي، ومها المصري، وسحر فوزي، وديما الجندي، وناظلي الرواس، والمخرج السدير مسعود، ورامي عياش، ونادين نجيم وأنابيلا هلال، وتقلا شمعون ووليد توفيق وسيرين عبد النور، وشملت أيضاً الممثل السوري البارز بسام كوسا، في وقت تتداول فيه أسماء نجوم سوريين ينتظرون الاستحصال على الإقامة الذهبية أمثال حسام تحسين بك، وخالد القيش وروعة ياسين. وكان لافتاً حصول الممثل القدير ياسر العظمة على الجنسية الإماراتية، بشكل متفرّد، وإعلان هذا الأمر عبر صفحته على فايسبوك، إذ دوّن قائلاً: «شرفتني دولة الإمارات العربية المتحدة بمنحي الجنسية الإماراتية، فشكراً لسمو الشيخ محمد بن راشد راعي الفنون والآداب والعلوم على هذه المكرمة». منح الإقامة الذهبية أو حتى الجنسية الإماراتية، لا يمكن اقتطاعه من سياق سياسي وأيديولوجي، يُدخل أوتوماتيكياً هذه الأسماء ومن سيليها، في حفلة تجنيد وتدجين يقوم بها النظام الإماراتي، عبر شراء الذمم بشكل مباشر أو غير مباشر، وأيضاً، إسكات الأصوات المؤثرة التي يمكن أن تناصر فلسطين، واليوم تستخدم مساحاتها الافتراضية لشكر الإمارات وحكّامها. إذ كان واضحاً خلال العدوان على غزة، الذي حرّك حتى الضمائر الغربية المساندة لـ«إسرائيل»، الحضور الخجول للفنانين والناشطين والإعلاميين على منصات التواصل، واكتفاء بعضهم بنشر أعلام فلسطين أو فيديوات صغيرة مؤثرة، من دون الانخراط الواضح والصريح مع القضية الفلسطينية، أو في أقصى الحالات مساندة المقاومة هناك وما تدكّ به العدو من ضربات قاصمة. المنصات التفاعلية التي كانت الأرضية الخصبة لنصرة فلسطين أخيراً، شكلت أيضاً، الأرضية الملائمة لنشر الدعاية الإعلامية الإماراتية والتغنّي بحكامها وبـ«حضارتها»، فقد تكفي هذه المنشورات التي تذكر الإمارات أو دبي أو أسماء الحاكمين فيها، لتعزز في رأس المتلقي صورة مبهرة وناصعة لهذه الدولة، وتخفي في المقابل، صورة اليد التي مُدّت لكيان الاحتلال وشاركت في إراقة دماء الغزيين، إلى جانب طبعاً الممارسات القمعية داخل الدولة نفسها.

النموذج اللبناني
نأتي بعدها، إلى النموذج اللبناني، الذي دخل فنانوه أوتوماتيكياً في هذه اللعبة، مع استغلالهم الأوضاع الاقتصادية التعيسة التي تمرّ بها البلاد، واستثمار سخط الناس على الحكام، مقابل مديحهم بحكام الإمارات والتغنّي باهتمامهم بشعبهم وبتأمين حياة مرفهة له. هكذا، بنظرة سريعة، تتراءى أمامنا سلسلة من الفيديوات أو المنشورات التي دونها هؤلاء على صفحاتهم الشخصية، وأظهرت وجودهم في الإمارات إما للسياحة أو لإنهاء تصوير مسلسل درامي، أو حتى مقيمين شبه دائمين هناك، وتضمنت تحسّراً على لبنان وأوضاعه، ومديحاً للإمارات، أو شكراً لحاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم الذي بعث في نهاية الشهر الماضي، مجموعة قصص للأطفال إلى منزل الإعلامي وسام بريدي، المعروف بنشاطه على السوشال ميديا، وحضور طفلتيه بشكل دائم أيضاً على هذه المنصات. قد تكفي حفلات الشكر التي تتوالى تباعاً مع الإعلان عن أسماء الفنانين الحاصلين على الإقامة الذهبية، على هذه المنصات لتخلق أجواء مطعّمة بدعاية سياسة وإعلامية غير مباشرة، يستخدم فيها هؤلاء ومن يمثلون ومن يؤثرون عليهم، لنشرها وتعزيزها، وتفاعل الآلاف معها. وهي طبعاً مساحة ملحّة ومطلوبة إماراتياً، لغسل صورتها المتواطئة مع كيان الاحتلال وتصدير نفسها كنموذج البلد الحديث الديمقراطي والمتقدّم. لعلّ النموذج اللبناني يعدّ الأوضح في عملية التدجين والانبطاح، فكلنا يذكر فترة تفشّي وباء كورونا في لبنان في الشتاء الماضي، وحجّ الوجوه الفنية في المقابل إلى الإمارات لتلقّي اللقاح، وتعمّد توثيق هذه العملية على السوشال ميديا، وشكر حكّام الإمارات على تأمين الرعاية الصحية للوافدين. وقتها، أثارت هذه الصور غضباً لبنانياً واسعاً، لشدّة انسلاخ هؤلاء عن معاناة شعبهم وبلادهم. ومن يدري ربما، تخرج في لبنان حادثة مشابهة لتلك التي احتشد لأجلها فنانون ومشاهير وقفوا «طوابير» على المساحات الافتراضية، يظهرون ولاءهم للسعودية بعدما هاجمها وزير الخارجية السابق شربل وهبة، ونراهم مجدّداً يصطفون تأييداً لحكام الإمارات بعدما أصبحت الإقامة الذهبية… في جيوبهم!


لدمشق حصّة
لدمشق محطة مختلفة مع أبو ظبي التي قاطعتها الأخيرة سياسياً وديبلوماسياً إبان الحرب الأخيرة على أراضيها، وعادت وطبّعت معها العلاقات أخيراً، وأعادت فتح السفارة السورية في أبوظبي. فيما يرتفع عداد الممثلين والممثلات السوريين في استحصالهم على الإقامة الذهبية في الإمارات، واصطياد أسماء لها ثقلها في الساحة الدرامية السورية أمثال ياسر العظمة وبسام كوسا، وغيرهما من النجوم، تتلقى هذه الأسماء بدورها سيلاً من الانتقادات، خصوصاً أنّ بعضها لم يقبل مغادرة سوريا تحت القصف والدمار، واليوم يستعدّ أو يبدي غبطته في الحصول على الإقامة الذهبية وربما يقرر الانتقال إلى هناك. من ناحية أخرى، شكلت الإمارات ولا تزال الوجهة الأساسية لفناني سوريا، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة، إبان الحرب مع تعطّل أعمالهم في الداخل. هؤلاء لجأوا الى أبو ظبي، كموئل لهم، وبيئة ملائمة لتنفيذ الأعمال الدرامية، وقد تبدو هذه الأيام ملائمة جداً مع حصولهم على امتيازات إضافية من الإمارات.