جاسم عجاقة -الديار

«لا يوجد أم للصبي»! هذا ما يُمكن قوله من خلال ما يمرّ فيه لبنان من شلّل سياسي قاتل دكّ هياكل الدولة اللبنانية ومؤسساتها واقتصادها وماليتها وعملتها الوطنية.

الوضع المعيشي إلى تردٍ مُستمرّ، حيث تمتد طوابير السيارات على محطات الوقود، والأدوية غائبة عن الرفوف في الصيدليات، والمواد الغذائية تُباع بأسعار خيالية في ظل دولار يُحلّق ولم يقل كلمته الأخيرة بعد…

مشاهد مُخيفة تجتاح الطرقات حيث لا يمرّ يوم إلا وتُسجّل أحداث أمنية على كامل الأراضي اللبنانية. وإذا كانت هذه الأحداث لا تزال تحت سيطرة الجيش والقوى الأمنية، إلا أن الأمر سيخرجّ حكماً عن السيطرة في ظل سيناريو استمرار الأزمة على ما هي عليه!

إستنزاف الإحتياطي

لا حدود لجشع التجار! فالمحروقات التي أمّن مصرف لبنان دولاراتها وفتح اعتماداتها لا تزال غائبة عن محطات الوقود لأن الشركات لا تُسلمّ البنزين. والسبب يعود إلى الـ 10% الشهيرة التي لا يدفعها مصرف لبنان (يدفع 90% من ثمن الصفيحة) والتي تُشكّل 65% من سعر الصفيحة عند الشراء على سعر صرف دولار 12000 ليرة. اليوم تُطالب هذه الشركات برفع سعر الصفيحة لتغطية الفارق مع سعر السوق السوداء أي 15000 ليرة. وفي الوقت نفسه، ينشط التهريب بالصهاريج بشكل غير مسبوق فاق العام 2019 الذي يُعتبر عام التهريب بامتياز!

الأدوية والمستلزمات الطبية رهينة الاحتكار حيث تُطالب الشركات بدعم هذه الأدوية والمُستلزمات في وقت يتمّ تهريبها واحتكارها ويضعون المواطن رهينة لكي يعلو الصوت ويتمّ الضغط على مصرف لبنان. أمّا المواد الغذائية فحدّث ولا حرج! فمن منا لم يسمع بإتلاف أطنان من حليب الأطفال المُنتهية صلاحيته؟ التبريرات التي تمّ تقديمها من قبل المعنيين غير مُقنعة خصوصًا عن آلية التلف التي تتطلّب تقديم طلب لدى وزارة الاقتصاد والتجارة التي توافق بشكل تلقائي وبالتالي هذه الآلية لا تأخذ إلا بضعة أسابيع بين قرار إتلاف البضائع وتنفيذ الإتلاف.

من المحروقات وصولا إلى الأدوية مرورا بالمواد الغذائية، طلب التجار واحد: نريد دولارات من مصرف لبنان! هذا الأخير لم يعد يملك دولارات باستثناء الإحتياطي الإلزامي (Reserve requirements) الذي هو من أموال المودعين، وبالتالي لا يُمكن المسّ به. هذا الأمر أكده مصرف لبنان في بيان صدر عنه البارحة ودعا فيه الحكومة مجدداً الى إقرار خطة لترشيد الدعم مما يحمي العائلات الأكثر حاجة ويضع حداً للتهريب المتمادي على حساب اللبنانيين بحسب البيان. وأضاف أنه «لن يستعمل التوظيفات الإلزامية» مُشددًا على أن الدفعات التي يقوم بها حالياً «هي من ضمن الفائض عن التوظيفات الإلزامية».

وأشار بيان مصرف لبنان الى أنه تلقّى لائحة بالملفات «ذات الأولوية بالنسبة إلى المستلزمات الطبية» من وزارة الصحة وبالتالي قام المركزي بتسديد المطلوب إلى المصارف ويعمل على تسديد الباقي. أمّا من جهة الأدوية، فإن المركزي ما يزال ينتظر من وزارة الصحة لائحة بالأولويات لإبلاغها إلى المصارف مُذكّرًا بأن المركزي لا يتعاطى مع المستوردين بل مع المصارف عملا بقانون النقد والتسليف.

وأشار بيان المركزي الى أن مصرف لبنان دفع ما يترتب عليه إلى المصارف لتلبية الاعتمادات والكمّيات مُذكّرًا بأن الكمّيات الموجودة كافية مُلقيًا بذلك المسؤولية على الشركات (التي تمتنع عن تسليم المحروقات إلى المحطّات)، مُشيرًا إلى أن موضوع الترشيد هو محطّ بحث ومتابعة بين وزارة الطاقة ومصرف لبنان ولجنة الأشغال في مجلس النواب.

أمّا في ما يخصّ القمح، فالمعروف أن مصرف لبنان يقوم بما يلزم عملا بالآلية التي تنصّ على موافقة مُسبقة من قبله مع موافقة وزارة الاقتصاد والتجارة. لكن تهريب الطحين قائم على قدم وساق كما تُظهره الفيديوهات المُنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي!

عمليًا وكما ورد في بيان مصرف لبنان، فإن المركزي يُموّل المدفوعات الحالية من «فائض عن التوظيفات الإلزامية». وبالتالي وفي ظلّ غياب الحلّ السياسي الذي يضمن دخول دولارات إلى القطاع المصرفي، فإن هذا الفائض سيضمحل حتى الوصول إلى الإحتياطي الإلزامي وهنا يُطرح السؤال: ماذا بعد؟

منطقيا هناك احتمالان:

الأول وينص على استخدام الاحتياطي الإلزامي وهو ما يرفضه المجلس المركزي لمصرف لبنان رفضًا قاطعًا. إلا أن القوى السياسية تقول إن المركزي مُلزم إقراض الدولة بحسب قانون النقد والتسليف (وهي الحجّة التي برّر بها مصرف لبنان تمويله الدولة في الماضي). وهذا يفرض أن تطلب الحكومة على مسؤوليتها من المصرف المركزي المسّ بهذا الاحتياط الإلزامي. هذا السيناريو سيسمح باستمرار الأمور على ما هي عليه وبالتالي استنزاف الاحتياطي الإلزامي حتى إيجاد حلّ سياسي، إلا أن الوجه الأخر لهذا السيناريو هو التعقيدات السياسية التي قد تنتج منه والتي تخرج عن إطار هذا المقال!

الثاني وينصّ على رفض استخدام هذا الاحتياط وهنا السيناريو أكثر تعقيدًا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي حيث سيفتقد سوق عرض الدولار أكثر من 60% وهو ما يطرح بحدّ ذاته عدة احتمالات داخل هذا السيناريو: الاحتمال الأول وهو تشاؤمي وينصّ على ارتفاع كبير في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء وبالتالي سترتفع الأسعار بشكل جنوني سيطيح التضخّم من خلاله الأخضر واليابس! الإحتمال الثاني هو أن يعمد المواطن إلى استخدام دولاراته في المنزل وهو ما سيُعوّض بشكل جزئي العرض الذي يؤمّنه مصرف لبنان وبالتالي يُخفّف من عمق الأزمة. الاحتمال الثالث وهو أن تعمد القوى الخارجية مثل فرنسا إلى دعم المواطن اللبناني وهو ما يضع لبنان تحت وصاية مالية فعلية!

الوصاية المالية

الوصاية المالية الدولية على لبنان أصبحت قريبة! هذا ما يُمكن قوله من خلال تطوّر الأحداث مع إعلان الرئيس الفرنسي عن مبادرة بالتشارك مع شركاء دوليين لضمان استمرار الخدامات العامّة لمساعدة المواطنين اللبنانيين في ظل أزمة حادّة. هذا وينعقد غدًا مؤتمر لدعم الجيش اللبناني حيث من المتوقّع أن تُشارك فيه عشرون دولة على الأقل، منها دول عربية بالإضافة إلى فرنسا والولايات المُتحدة الأميركية. والتوجّه هو نحو تأمين المواد الغذائية واللوجستية الضرورية للمؤسسة الجيش اللبناني لكي تستمر في القيام بمهامها في ظل توقعات بتردّي الوضع الأمني إلى مستويات خطرة لن يكون هناك من حلّ لضبط الأمور إلا باستمرار عمل المؤسسة العسكرية.

لكن الأصعب في الأمر أنه ومع اضمحلال الدولارات في القطاع المصرفي، سيكون هناك صعوبات كبيرة إن لم نقل استحالة بالاستمرار في استيراد المواد الغذائية والأولية للمواطنين. وإذا كانت الأنظار تتجّه نحو المبادرة الفرنسية التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلا أن المُستقبل محفوف بمخاطر جمّة ستجعل من لبنان دولة غير قادرة على الاستيراد إلا بضمانة من دول أو تكتّل دول لكي تقبل المصارف المراسلة فتح اعتمادات للمصارف اللبنانية. وهذا الأمر لا يُمكن وصف سوئه إلا من خلال مشاهد المجاعة التي قد تضرب الطبقة الفقيرة في لبنان والتي تقبع في فقر مُدقع عميق!

التحذيرات الدولية

هذه السيناريوهات التشاؤمية حذّرت وُتحذّر منها المؤسسات الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي الذي أطلق تقريرين: الأول يخصّ لبنان ككلّ والثاني يخصّ المؤسسة العسكرية! ففي التقرير الأول توقع البنك الدولي أن يسقط لبنان في أزمة هي من بين أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشرّ نظرًا إلى سرعة تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي مع ديناميكية فقر في تطوّر سريع نحو الأسوأ حيث يُمكن القول إن أكثر من 90% من الشعب اللبناني سيُصبح في حال عوز مع حاجة أكثر من نصف الشعب إلى مساعدات غذائية مباشرة!

في التقرير الثاني، حذّر البنك الدولي من أن تردّي الوضع المالي والاقتصادي سيضرب مؤسسة الجيش وسيمنعها من القيام بمهامها كما يجب، نظرًا إلى كل ما تُقدّمه الدولة اللبنانية من خلال الموازنة للجيش اللبناني هو عبارة عن معاشات أصبحت قيمتها متدنّية مع تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء، وفي ظل غياب كامل للأجهزة الرقابية وتقاعسها عن منع التهريب والاحتكار والتعاملات المُخالفة للقانون.

عمليًا هذه التحذيرات ليست الوحيدة، فقد صدر مؤشر الدول الفاشلة للعام 2021 حيث احتل لبنان المرتبة 34 على 179 دولة وتوقعاتنا أن يكون لبنان في المراتب العشر الأولى في العام المُقبل إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه. كل هذا في ظلّ شللّ سياسي قاتل يُمكن الاستنتاج منه أن القرار ليس محليًا كما يُحاول الإيحاء بذلك بعض المسؤولين، وإلا فإن ما يقوم به المعنيون يُمكن تصنيفه بجريمة ضد الشعب اللبناني.

الشللّ السياسي

هذا الشلّل أصبح العائق الأساسي والوحيد أمام الخروج من الأزمة مع ربط المساعدات المالية الدولية والاستثمارات العالمية بعملية التفاوض مع صندوق النقد الدولي. هذا الأخير يرفض التفاوض إلا مع حكومة أصيلة لا تزال بعيدة المنال حتى الساعة.

وحتى الساعة، لم تستطع أي من الدول الشقيقة التي أعلنت جهوزيتها لمساعدة لبنان ماليًا، ترجمة هذه الجهوزية نظرًا إلى صعوبة التعاطي المباشر مع الدولة اللبنانية، خصوصًا أن العالم أجمع ربط التعاطي مع الدولة اللبنانية من خلال حكومة «قادرة على القيام بإصلاحات» و»قادرة على عزل لبنان عن الصراعات الإقليمية» كما ورد في بيان وزارة خارجية الاتحاد الأوروبي العام الماضي.

وبالتالي، وفي ظل غياب الحكومة، أصبحت كل القرارات الاقتصادية والاجتماعية والمالية غير مُمكنة، خصوصًا أن حكومة تصريف الأعمال أعلنت بكل وضوح عن التزامها بتصريف الأعمال بمعناه الضيق. وهذا الأمر يجعل من لبنان رهينة جشع عصابات تُحاول الاستفادة من مآسي المواطنين اللبنانيين.

الهجرة

هذا الإطار الأسود يدفع اللبنانيين خصوصًا الطبقة المُتوسّطة إلى الهجرة، نظرًا إلى أنها طبقة تتمتّع بمؤهلات علمية وخبرات طويلة تجعلها مؤهّلة للهجرة بنظر الدول الأخرى. على هذا الصعيد، يُمكن ذكر هجرة أكثر من 1200 طبيب أو هجرات مئات الممرضين والممرضات وأساتذة الجامعات والمدارس. وبالتالي، من المتوقّع أن يُحرم لبنان من الطبقة المتوسّطة التي هي عماد الاقتصاد وعماد مالية الدولة (من خلال الضرائب).

والأخطر في الأمر أن بعضاً من هؤلاء لن يعود إلى لبنان أو أقلّه سيتركون لبنان لفترة لا تقلّ عن خمس سنوات، وبالتالي سيكون لذلك تداعيات كارثية على عملية التعافي حين يتم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي نظرًا إلى غياب هذه اليد العاملة الفاعلة.

إضراب الاتحاد العمّالي

في ظل تردّي الوضع المعيشي، يُنفّذ الاتحاد العمّالي اليوم إضرابًا عامًا يشمل القطاعين العام والخاص حيث ستُقفل المصارف أبوابها، بالإضافة إلى محطات الوقود والعديد من المؤسسات الرسمية التي ستعجز عن تأمين الخدمات إلى المواطنين. ويتوقّع رئيس الإتحاد العمالي العام بشارة الأسمر أن يتمّ إقفال طرقات، مما سيؤدّي إلى إضطراب في تنقّل المواطنين لأعمالهم ودعا المواطنين إلى المشاركة في الإضراب أو البقاء في المنازل.

هذا الإضراب الذي يأتي بعد أكثر من عام ونصف على اندلاع الإحتجاجات الشعبية في تشرين الأول 2019، يتميّز بأن المشاركين فيه هم من الطبقة الفقيرة وأسفل الطبقة المُتوسّطة في حين أن احتجاجات تشرين كان عمادها الطبقة المتوسّطة. وإذا كنا لا نتوقّع نتيجة من تحركات اليوم نظرًا إلى التعنّت الكبير على الصعيد السياسي ونظرًا إلى تطوّر الأمور، نتوقّع أن تزداد وتيرة إضرابات الإتحاد العمّالي العام مع تردي الأوضاع وقد تخرج عن السيطرة في وقت من الأوقات.