كان علينا أن نعاين أحد المرابض الصاروخية التي طاولها القصف الإسرائيلي، كي نقترب أكثر من الوحدة التي صنعت المقاومة بينها وبين الكاميرا خصومة لم نستطع خلال إعداد هذا الملفّ تجاوزها بأيّ من السبل. رافقَنا أحد المقاومين إلى النقطة التي أحدثت فيها غارات الطائرات حفرة بعمق يتجاوز عشرة أمتار وبقطر يقارب 15 متراً. في الطريق، لم يَفُت الرجلَ أن ينبّه مراراً إلى أن هذه المهمّة ليست رسمية. صحيح أن المكان قد «احترق» – أي كُشف أمره -، ولم يَعُد صالحاً لاستخدامات عسكرية أخرى، لكن المقاومة في العادة لا تسمح للصحافة بزيارة أماكن كهذه. بحسب أبو الوليد، ضابط المدفعية الذي تحدّثت إليه «الأخبار»، فإن عدداً محدوداً جداً من المرابض الصاروخية والمدفعية استطاعت الطائرات الإسرائيلية استهدافه، عقب خروج رشقات صاروخية كبيرة منه؛ إذ بإمكان الطائرات المُسيّرة الإسرائيلية في بعض الأحيان أن تحدّد نقطة ما انطلقت منها الصواريخ، لكن بالمجمل، والكلام لضابط «سرايا القدس»، «هناك المئات من المرابض الصاروخية ووحدات مدافع الهاون، وما طاله القصف بعد إتمام المهمة، العشرات من النقاط فقط».
بالعودة إلى المنطقة التي غيّرت قنابل الـ»جي بي يو» الأميركية ملامحها، فقد قصفتها المقاتلات الإسرائيلية بعد أن انطلق منها عدد من الصواريخ ذات المدى البعيد، غير أن هذا القصف الانتقامي لم يغُيّر من واقع الأمر شيئاً، إذ كانت الصواريخ قد انطلقت وانتهى الأمر، يقول المقاوم الشاب، موضحاً أن هناك احتمالية لأن ينكشف مكان المربض بعد استنفاده مهمّته، إلا أن هذه الفرضية لا تكون دقيقة دائماً. وممّا كشفته مصادر المقاومة لـ»الأخبار»، أنها امتلكت معلومات عن توظيف جيش الاحتلال منظومة تكنولوجية متطوّرة، كانت ستوكل إليها مهمّة تحديد أماكن انطلاق الصواريخ، عبر رصد أيّ تغيّر في درجة حرارة ذرّات الهواء المحيطة بتلك الأماكن، لكن، قبل المعركة، كان خبراء المقاومة قد جهّزوا آلية بدائية للغاية – لن تخطر ببال مراكز أبحاث العدو – استطاعوا عبرها تجاوز التقنية الإسرائيلية الجديدة، وإعماءها عن تحديد المواقع النقطية لانطلاق الصواريخ. وعن الرحلة التي تقطعها الصواريخ بدءاً من تربيضها حتى تفعليها، يقول الشاب: «الحكاية لا تُحصر زمانياً بالأيام أو بالشهور؛ هناك صواريخ تمّ تربيضها منذ سنوات تتجاوز الأربع، وهي لا تتطلّب جهداً في تذخيرها في باطن الأرض والذي يُعدّ مرهقاً جدّاً فقط، إنما أيضاً في رعايتها وتأمينها وصيانتها بشكل شهري. هذا العمل يقوم به عدد كبير من المقاومين الذين يتوزّعون على تخصّصات يكمل بعضها بعضاً، تبدأ بوحدات التصنيع والتجريب، وتمرّ بالوحدات التي تقدّم الإحداثيات، وصولاً إلى المقاومين الذين يعملون على تربيضها، ثمّ الوحدات التي تتولّى صيانتها طوال المدة، حتى المقاوم الذي يقوم بمهمّة إطلاقها حين يتلقّى الإشارة بذلك».
في خلال وجودنا، قام المقاومون بانتشال أحد الصواريخ الذي لم يتأذَّ من القصف. أخبرنا الفريق التقني أن الصاروخ من عائلة «بدر»، فيما قَدّرنا بأنفسنا أن طوله يتجاوز الـ5 أمتار ونصف المتر بقليل. لعلّ هذا الحجم الهائل يدلّل ليس على قدْر الجهد المبذول في تربيضه فقط، بل أيضاً على الكلفة الهائلة التي يتطلّبها ذلك. يقول أحدهم: «ما نعلمه أن هذه الصواريخ ثمينة، فهي نتاج جهود طويلة استمرّت لقرابة 18 عاماً، وبُذلت في سبيلها ليس الأموال فحسب، بل الدماء».

في مطلع حزيران 2001، سُجّلت ولادة أوّل صاروخ محلّي الصنع أطلقته المقاومة. حينها، لم يكن مدى صاروخ «قسام 1» يتجاوز كيلومترَين، لكنّ الشهيدين نضال فرحات وتيتو مسعود عكفا على إجراء المئات من التجارب، حتى وصلت مديات الصواريخ إلى 4 كيلومترات في عام 2002، لتُستخدم في قصف المستوطنات المُقامة داخل أراضي قطاع غزة. وبعد فترة، دشّنت «سرايا القدس» صاروخها الأول الذي كان يحمل اسم «شهداء جنين». يقول أبو حمزة، وهو الناطق الإعلامي باسم «السرايا» إن «المجاهدين تجشّموا عناءً كبيراً في تحويل الفكرة النظرية إلى واقع عملي، جرى استثماره لاحقاً في قصف مستوطنات غلاف غزة، ولا سيما بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005»؛ إذ خلّف الانسحاب واقعاً ميدانياً حوّل الصاروخ من شكل ثانوي من أشكال المقاومة، إلى أحد أعمدتها الرئيسة، حيث قلّص جيش الاحتلال هامش الاحتكاك بين المقاومين وجنوده، وذلك عبر صناعة مناطق جرداء من الأشجار على طول الحدود الشرقية للقطاع، تراقبها وسائل التكنولوجيا المتطوّرة على مدار الساعة.
ساهمت الصواريخ في التحايل على الوقائع الميدانية القائمة، فلم يَعُد المقاومون بحاجة إلى تنفيذ مهمّة استشهادية لزرع عبوة في موقع ما، إذا كانت الصواريخ وقذائف «الهاون» تقوم بالمهمّة. هذا في ما يخصّ غلاف غزة، أمّا في ما يتعلّق بمدن العمق، فقد أصبحت الصواريخ المُعادل الموضوعي للعمليات الفدائية التي كان ينفّذها المقاومون في الضفة الغربية وفي الداخل المحتل، وخصوصاً بعد المدى البعيد والتأثير المجدي اللذين ظهر أن المقاومة امتلكتهما في حرب العام 2012، عندما قصفت مدينة تل أبيب لأوّل مرّة بصاروخ من طراز «فجر» إيرانيّ الصنع. ووفقاً للأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، زياد النخالة، فإن المقاومة لم تحصل على الصواريخ البعيدة المدى من الجمهورية الإسلامية في إيران فحسب، بل نقل الحرس الثوري الإيراني تقنيات صناعة الصواريخ إلى القطاع، من أجل معالجة المشكلات التي تعترض وصول السلاح. وهنا، تَحضر النقلة النوعية التي سجّلتها صواريخ المقاومة ما بعد حرب العام 2008. حينها، كانت الصواريخ برمّتها صينية أو روسية الصنع، وأبعد مدى تصل إليه 40 كيلومتراً، فيما مدى الصواريخ المحلية يصل إلى حدود 20 كيلو متراً فقط. وكما أن ما قبل 2008 ليس كما بعده، فإن المقاومة ترى أن ما بعد 2021 ليس كما قبله. وعن ذلك، سألنا ضابط المدفعية في «سرايا القدس»، أبو الوليد، عن الطموح الذي تتطلّع إليه الوحدات الصاروخية، فأجاب أن «أبلغ ما يتمنّاه جندي المدفعية والصاروخية، أن يحقّق إصابة دقيقة في الهدف، ومستوى انفجارياً كبيراً يُحدث أثراً مجدياً، وأكثر ما يأمله المقاومون بل ويعملون على تحقيقه، هو أن يصلوا بصواريخهم إلى قصف أهداف نقطية بالغة الدقة، برأس تدميري كبير». هل سيأتي هذا اليوم؟ يجيب المقاوم الشاب مبتسماً: «ما نحن فيه اليوم كان حلماً في عام 2003، ربّما سيصبح اليوم الذي كُنّا نقصف فيه مدن العمق بالعموم ذكرى من الماضي الجميل، وستعلن المقاومة ذات يوم أنها استهدفت الكنيست الإسرائيلي أو مقرّ وحدة إدارة المعارك، الكرياه، وهذا ليس حلماً، بل هدف هناك من يعمل لتحقيقه».