طوال السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ الدخول إلى الميدان السوري للمساهمة في الحرب على الإرهاب ومساعدة الجيش السوري، وقف الروس على شرفة الملفّ اللبناني، يراقبون تطوّرات الأحداث ويتابعون أدقّ التفاصيل. ويمكن القول إن المرحلة الماضية اتّسمت باحترامٍ «مُبالغ فيه» لمساحة النفوذ الأميركي، مع ترتيب شبكة علاقات واسعة عبر السفارة في بيروت أو عبر موسكو مباشرةً، مع مختلف القوى السياسيّة اللبنانية، التي ارتضت، بغالبيتها، أن لا تكسر الخطوط الأميركية الحمر، بأي تعاون جدّي مع روسيا.

عمليّاً، ثابر الروس في «الوقت الضائع» على دراسة الواقع اللبناني جيّداً. حتى إنّ أجهزتهم الأمنية والدبلوماسية كانت ترصد المخطّط الأميركي لتفجير البلاد وعلامات انهيار الاقتصاد والدولة. كما رصدوا حركة القوى اللبنانية، السياسية والعسكرية، وحتى تلك التي تحمل راية «المجتمع المدني» وارتباطاتها الخارجية، وسلوك المصارف وملفّات الفساد وعلاقات القوى بعضها مع بعض، وصولاً إلى تأثير الأحزاب والجمعيات في المناطق وقدرتها على التجييش، والتخريب، أو المساهمة في الاستقرار.
إلّا أن 17 تشرين 2019 كانت علامة فارقة غير مفاجئة لموسكو، بوصفها مؤشّراً مهمّاً على دخول لبنان في مرحلة من الفوضى، متعدّدة الأسباب المحليّة والإقليمية والدولية. وهم اعتبروا (الروس) أن تفاقم الفوضى في لبنان، قد يطيح كلّ الإنجاز العسكري والسياسي الذي تحقّق على أرض الشام، في مواجهة عصابات الإرهاب الدولي وداعميها الأميركيين بالدرجة الأولى، ويعرقل عمليّة إعمار سوريا وكل المشاريع الحيوية الاقتصادية التي يعملون على بنائها على شاطئ المتوسط.
خلال الأشهر الماضية، ومع تولّي الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن مهامه، حسمت موسكو خيارها. لم يعد ممكناً البقاء في موقف المتفرّج على الساحة اللبنانية. وهذا ليس سرّاً. في وزارة الخارجية الروسية اليوم كلامٌ واضحٌ وصريح عن نية موسكو الاستثمار الاقتصادي والسياسي في لبنان، بمعزلٍ عن موقف الأميركيين. حتى إن زوّار موسكو، من الرئيس سعد الحريري إلى رئيس التيار الوطنيّ الحرّ جبران باسيل إلى رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، سمعوا الموقف الواضح على لسان رئيس الدبلوماسية الروسية الوزير سيرغي لافروف. وما لا يقوله لافروف بالفم الملآن، تقوله لـ«الأخبار» مصادر روسية معنيّة بالملفّ اللبناني: «سنعمل في لبنان. سنحاول بالتفاهم مع الأميركيين، أو بالقضم، وإمّا بالمواجهة معهم. لأنه لا يمكن ترك لبنان للانحلال وتهديد كلّ المنطقة، ولبنان بوابة اقتصادية مهمّة وعنصر مهم جداً في الاستقرار وإعادة إعمار سوريا. روسيا ولبنان لديهما مصالح مشتركة، وعلينا أن نؤمّن مصالح دولتنا والدول والشعوب الصديقة، شاء الأميركيون أم أبوا».
لا تخرج زيارة الوفد الروسي إلى بيروت أمس عن سياق هذه الرؤية. ضمّ الوفد ممثلين عن شركة «Hydro engineering and construction »، هم المدير العام أندريا متسغر، مدير الاستثمارات الخارجيّة فلاديمير أوساتدشي، وخبير المرافئ قسطنطين سالومخين، وهي شركة مدعومة من الحكومة الروسية وتحظى بغطاء رسمي للعمل على الأراضي اللبنانية.

قبل شهرٍ ونصف شهر تقريباً، حضر الوفد ذاته في «دورية سبّاقة»، استهدفت لقاء غالبية القوى السياسية، وبقي معظم اللقاءات طيّ الكتمان. الزيارة هذه المرة تعدّ البداية الفعليّة لمسارٍ طويل مرهون بنيّة الجهات اللبنانية وقدرتها على تحقيق مصالح لبنان رغم الضغوط الأميركية، حيث شملت الزيارة لقاء وزيري الطاقة ريمون غجر والأشغال العامة والنقل ميشال نجّار، على أن تستمر زيارة الجزء التقني من الوفد حتى نهاية الأسبوع الجاري.
حتى الآن، لا يمكن التفاؤل بوجود نيّة لبنانية رسمية جديّة للتعاون. طرح الوفد عدّة أمور، كلّها تعدّ حاجة ماسّة للبنان. فركّز على بناء مصفاة محليّة لتكرير النفط في الزهراني، وسلّم غجر نسخةً عن المخطط، مع تأكيد أن هذا المخطّط يصلح أيضاً لتوسيعه في جزءٍ آخر، ليشمل بناء مصفاة إقليمية في البداوي تضع لبنان على خارطة تكرير النفط وتأمين حاجة محليّة ودولية. التركيز طبعاً على مصفاة الزهراني بسبب الأزمة الراهنة التي يعانيها البلد، وهو الأمر الذي لمّح إليه الأمين العام لحزب الله السّيد حسن نصر الله في خطابه قبل أيام، في إطار التعاون والتنسيق الحاصل بين حزب الله والجانب الروسي. اللافت، أن أي مصفاة متطوّرة تحتاج إلى حوالى عام لكي يتمّ بناؤها، إلّا أن ضغوطاً واتصالات كثيرة مارسها أصدقاء لموسكو في بيروت، أدّت إلى تأكيد الجانب الروسي أنه يمكن بناء المصفاة بأسرع وقت ممكن، في مدّة تراوح بين ستة أشهر وتسعة أشهر، علماً بأن هذا الأمر يتطلّب جهداً مضاعفاً.

المشروع الثاني الذي عرضه الوفد الروسي يتضمّن إنشاء معملي كهرباء من أصل ثلاثة أقرّتها الحكومة اللبنانية، من دون أن يحسم الروس مكانها الجغرافي.
أما المشروع الثالث فيتضمن شقّين: الأول ترميم مرفأ بيروت وتوسيعه بما يعيد إليه حيويته ودوره الإقليمي كمدخل نحو العمق السوري ومنه إلى باقي آسيا، والشقّ الثاني بتوسيع مرفأ طرابلس وتأهيله ليتلاءم مع موقع طرابلس المهمّ وكجزء من حركة إعادة إعمار سوريا بالتكامل مع ميناء طرطوس واللاذقية، وكذلك الاستعداد لبناء إهراءات إقليمية للحبوب في المرفأ تتناسب مع مشروع بإنشاء إهراءات مماثلة على الساحل السوري تستطيع خدمة الإقليم انطلاقاً من سواحل سوريا والشمال اللبناني. ولم يقرب الروس ملفّ إهراءات مرفأ بيروت، على اعتبار أن دولة الكويت تكفّلت ببنائها مجاناً.

الأبرز في كلّ هذه العروض، أن الجهات الروسية تفهم جيّداً الواقع المالي للدولة اللبنانية. وعلى ما تؤكّد مصادر الوفد أن «الجانب الروسي يقبل بالدخول في الاستثمارات على قاعدة (BOT)، بضمانة الدولة اللبنانية ودعم من مصرف روسي مكلّف من قبل الجهات الرسمية الروسية».
يبقى الجانب اللبناني بمختلف قواه السياسيّة، عدا حزب الله، يعطي الروس «من طرف اللسان حلاوة»، لكن من دون أي تطبيق فعلي. لقاءات أمس مع وزيري الطاقة والأشغال كانت جيّدة من حيث الشكل، فارغة في المضمون، طالما أن الوزيرين ربطا عملهما بحكومة تصريف الأعمال، و«عدم القدرة على اتخاذ القرارات». وليس بعيداً عنهما، توقّف الروس كثيراً عند غياب وزيرة الدفاع زينة عكر عن مؤتمر الأمن الدولي في موسكو الأسبوع الماضي، والذي ألقى فيه الرئيس فلاديمير بوتين خطاباً مفصليّاً في السياسة الدوليّة، على رغم دعوتها وتأكيدها المشاركة، في مقابل حضورها أمس في روما مؤتمر اجتماع «التحالف الدولي ضد داعش»، الذي اخترعه الأميركيون قبل سنوات لتغطية تدخّلهم العسكري في العراق وسوريا. يبقى أن قرار مصفاة الزهراني بيد رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، الذي يدرك الروس أنه يستطيع بشحطة قلم الموافقة عليه، لكنّه يقول إنه لا يريد تحمّل «المسؤولية» وحده عن قرار كهذا! بينما تفتح طوابير الذلّ أمام محطات الوقود باب حرب أهليّة جديدة من نوعٍ آخر.