ليست التحوّلات الحاصلة منذ فترة في السياسة الخارجية السعودية، بسيطة أو محدودة الدلالات. هي تنمّ عن مراجعة شاملة تقوم بها المملكة لجملة الملفّات المتورّطة فيها في الإقليم والعالم. صحيح أن الهدف الرئيس، المتمثّل في وراثة محمد بن سلمان عرش أبيه، لم يتغيّر، لكن أدوات الوصول إلى ذلك لم تَعُد هي نفسها التي لجأ إليها الأمير الجامح، منذ بداية صعود نجمه عام 2015، وصولاً إلى سلسلة الانتكاسات المتلاحقة التي تُوجّت بخسارة دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية. هذه الخسارة جعلت ابن سلمان يدخل سريعاً “ورشة طوارئ” على عدّة مستويات وفي غير اتّجاه؛ أوّلاً من أجل كسب الرضى الأميركي الذي يهدّد افتقاده بضياع سنوات من جهود احتكار السلطة وضرب المنافسين عليها، وثانياً في سبيل الخروج من المعارك الفاشلة التي كبّدته كثيراً من أمواله ورصيده وسمعته ونفوذ بلاده من دون أن يجني منها شيئاً. في هذا السياق تحديداً، يمكن فهم كلّ ما قام به في الأشهر الأخيرة، من توجيهه بتزخيم نشاط اللوبيات التابعة له على أراضي الحليف الأميركي بهدف استمالة إدارة جو بايدن الواقعة في مأزق كيفية التعامل معه – وإن كانت وثاقة الصلات البنيوية بين الطرفَين تُصعّب توقّع أيّ افتراق دراماتيكي -، مروراً بطيّه صفحة مقاطعة قطر، وليس انتهاءً برفعه البطاقة الحمراء في وجه “صديقه الصدوق” محمد بن زايد، وتدشينه سياسة الإقلاع عن مناكفة “الشقيق” العُماني، بل وطلب تدخّله لتحصيل “الضمانات” اللازمة لإنهاء الحرب على اليمن، والتي تشكّل بنداً أوّل، وربّما وحيداً، على أجندة محادثاته مع الإيرانيين. في خضمّ كلّ ذلك، يبقى الثابت أن لا ثابت في سياسات “ما بعد الدولة” في السعودية، وأن استعجال التسويات ومحو آثار الخطايا الفادحة يكادان يشكّلان خصائص ملازمة للعهد “السلماني”، الذي يبدو أنه لا يزال يسير حيث ينتهي الأفق

بات في حُكم الحتمي في السياسة الخارجية السعودية، التمييز النوعي بين التكتيكي، المُتاح للتداول والتناول العام؛ والاستراتيجي، المؤجّل عقلياً وأزلياً. ذلك أن ثمّة عدمية سياسية تجعل كلّ شيء خاضعاً للتبدّل والزوال، والبدء من نقطة اللاعودة، أو من حيث لا أفق. السياسة العملية تَطبع المواقف، وتمشي يداً بيد مع المتغيّر اليومي، وإن سقطت في الخطأ الدائم، عطفاً على تماهي الصواب والخطأ مع متناقضات المواقف إزاء ملفّات ساخنة. في السياسة الخارجية، كما في بقيّة حقول السياسة الأخرى، لا ضابطة أخلاقية ولا حتى سياسية، أو حتى ميتافيزيقية (إن كان لا يزال هناك مَن يجد فيها سلوة لإلباس مواقفه بها والتسامي على معيارية التحاكم العقلاني)، يمكن أن تفسّر طبيعة التقلّبات بكلّ أشكالها العبثية، وغالباً المثيرة للسخرية. العداوة والصداقة ليستا قيمتَين أخلاقيتَين في السياسة، منذ اندغامهما في لعبة المصالح، ولكن في المسرح الخليجي بِتْنا أمام لعبة كراسي هابطة، تجعل حليف الأمس عدوّ اليوم، والعكس صحيح، من دون الاتّكال على الزمن في تثبيت التحالفات وانفضاضها، لأن الزمن السياسي لا يسير بحسب مقاييس الزمن الطبيعي.
على الرغم من أن خارطة التحالفات لا تخضع للحدس الساذج، أو التخمينات المنحازة، فإن المواكبة الدقيقة لمسار الخطيئة، على الأقلّ في سنوات عهد سلمان، بكلّ إخفاقاته المقصودة أو شبه المقصودة، أي الناجمة عن رهانات ارتجالية ومراهقة، يشي بما لا يدع مجالاً للريب بالخلل الجُوّاني، أي في بنية وعي الفريق المسؤول عن إدارة السياسة الخارجية. ليس نادراً في تاريخ المملكة السعودية أن يكون للعامل الخارجي حضور مركزي، بما يجعل من السياسة استجابة خارجية محضة، أي متولّدة من متغيّرات خارج الحدود. ولكن هذه المرّة، يبدو الخارج كما لو أنه الفيصل العلني، الواضح، والجلي. يعكس ذلك وهناً بنيوياً خطيراً في النظام السياسي السعودي، الذي خسر في عهد سلمان مصادر قوّته وحتى مشروعيّته: العائلة المالكة، المؤسّسة الدينية، التحالفات القبلية (النجديّة)، طبقة التجّار والعوائل التجارية التقليدية.

قدرة الرياض على التنقيب عن أصدقاء دائمين تَضعف مع الأيام، ولا شكّ في أن الحلفاء قبل الأعداء قد أعدّوا أنفسهم ليوم تتقلّب فيه التحالفات والمصالح. فالإماراتي، قبل القطري، أدرك مبكراً أن التوازن الحاذق المحمول على ديناميات سياسية واقتصادية وأمنية، يتغذّى على تشابكات اللحظة، وأن كلّ ما هو بعيد المدى يقع خارج حسابات الطرفَين المتصادقَين بحكم الضرورة المؤقّتة، والتي ترسم وحدها خطّ سير التضامن السياسي، وليس الأخلاقي، لبعض الوقت. فالتقارب والتدابر في شبكة التحالفات لا يعكسان تبدّلاً في الشبكة المفاهيمية، وذلك ببساطة لأن ردود الأفعال وليس الأفعال الابتكارية والخلّاقة هي التي تدير دولاب السياسة. في العهود السابقة، ولاسيما منذ 1970 وحتى 2015، كانت السياسة الخارجية السعودية تميل أكثر فأكثر نحو “الانسجام النسبي” في التعاطي مع ملفّات إقليمية وحتى دولية، وتأكيد “المحورية السعودية” في النطاق الإقليمي، وإلى حدّ ما الدولي. التغيّر في عهد سلمان ذو صلة بالتحوّلات الاقتصادية (من الريعي إلى النيوليبرالية في شكلها الصدموي)، ولكن هذا ليس وحده العامل المسؤول عن التقلّبات المباغتة و(البهلوانية) في السياسة الخارجية. ما قد يتمظهر كنموذج “ما بعد الدولة” عن طريق قذف الجهاز البيروقراطي التقليدي إلى الهامش، وصُنع جهاز آخر موازٍ يضطلع وظيفياً بكلّ أدوار الدولة، مؤّلف من مجلسَين: واحد للشؤون السياسية والأمنية وآخر للشؤون الاقتصادية والتنمية، ويضمّ أعضاء مجلس الوزراء، لا يفضي إلى تجديد الدماء في الجسد الدولتي، وإنما يؤسسّ لنظام أوتوقراطي فريد، ويجعل الدولة بكامل حمولتها رهن إشارة “الحاكم بأمره”.
لم يحدث أدنى تغيير في رؤية الملوك السعوديين للسلطة، ولا للمجتمع. فلا تزال السلطة، في صميم عقيدة آل سعود على تعدّد أجنحتهم، امتيازاً حصرياً لهم؛ ولا يزال المجتمع، في صلب تلك العقيدة، أشتاتاً من رعايا جرى قهرهم بقوّة السيف. هذه الرؤية كفيلة بتفسير لماذا يكون كلّ ما له صلة بالدولة شأناً خاصاً وعائلياً، لأن السياسة، في هذا البلد، ليست شأناً عاماً، كما في الدول المكتملة التكوين، أي التي توافرت على شروط الدولة الوطنية. وعليه، فإن السياسة الخارجية تُصنع في القصر وليس في مبنى وزارة الخارجية، والوزير نفسه يتلقّى توجيهاته من الديوان، أي من خارج الملاك البيروقراطي/ الإداري، أي مجلس الوزراء، المعنيّ برسم السياسات، وصُنع القرارات، وإصدار التعليمات. أزمة التمثيل، ومنتَجها أزمة الهوية، خاصية لصيقة بالنظام السعودي، وإن اتّسمت بها الأنظمة الشمولية عامة. ظلّ الملك على الدوام القوّة الحاسمة في أيّ قرار يكتسب الصفة السيادية، ولكنه كان يحتكم في ما مضى، وبملء حدسه الذاتي، إلى توازنات القوى داخل العائلة وحسابات الأجنحة المتنافسة أو المتصارعة أو حتى المتحالفة، وكان “مجلس العائلة” المرجعية الناظمة للخلافات والتسويات، وهذا ما بدا غائباً بصورة شبه كاملة في عهد سلمان، الذي عطّل الإجماع العائلي، وقوّض الروح الدينية للدولة، بعزل الجماعة الوهابية المعنيّة تاريخياً بتوفير وصْفة المشروعية الأيديولوجية للمملكة السعودية.

ما علاقة ذلك كلّه بالسياسة الخارجية السعودية؟
إن التفرّد الاحتكاري بالسلطة لا يقوّض فقط أسس الإجماع العائلي – الذي هو ثمرة تسويات راسخة وعميقة الجذور – إزاء ملفّات داخلية وخارجية، بل ينطوي على تهديد جدّي للوجود الكياني. وإن هذه النزعة، بطابعها الانفعالي، تجعل السياسة الخارجية ميداناً للتجارب، الفاشلة غالباً، وتحيل المفاهيم الأساسية التي نتصوّرها في حقل السياسة والإدارة، وكما يفهمها الفاعل السياسي المحترف، إلى مجرّد “يوتوبيات” سخيفة. في حقيقة الأمر، إن الدولة والمجتمع كأهمّ مكوّنَين في العقد الاجتماعي، باتا خارج المعادلة، وأصبحت “قوّة الشخصية” البديل الوظيفي، في ما يشبه استعادةً لواحدةٍ من النظريات السياسية القروسطية. لكن يحلو لفريق “المطبّلين” إضفاء صفات فوق بشرية على ابن سلمان، في سياق تبرير تكديس السلطة واختزالها المطلق في شخصه.
في التداعيات، بات على الشعب أن يكون مستعدّاً، على الدوام، لتقلّبات السياسة، لارتباطها الوثيق بالمزاج الشخصي للأمير، ولتقبّل التموضعات المتبدّلة دراماتيكياً في الخصومة والعداوة. وعلى الأفراد الدفاع، وبكلّ فظاظة غالباً، عن قرارات كانت بالأمس “تابوات” يستحيل إخضاعها للمساءلة، وأصبحت اليوم مندكّة في صلب “الانتماء والولاء” للوطن. قطر المُشيطَنة بالأمس، تُعاد بعد نوبة الجنون الإعلامي لسنوات ثلاث إلى بيت الطاعة، حتى إشعار آخر، فيما تتأهّل الإمارات، منذ شهور، أي منذ إعلان ولي العهد قراراً يقضي بإجبار الشركات الدولية على اختيار السعودية وليس أيّ دولة أخرى (= الإمارات) مكاناً لمقارّها الإقليمية (حتى الآن تحوز الإمارات على المقارّ الإقليمية لـ46 من أصل 50 شركة عالمية، فيما اختارت شركة واحدة السعودية مقرّاً إقليمياً لها)، على الرغم من محاولات ضبط إيقاع الخلاف لمنْع خروجه عن السيطرة كما حصل في التجربة القطرية. من المستفزّ حقّاً أن يكون التنافس بين هذه الدول على الأقدر على تقديم التسهيلات السوقية، في مسار تأبيد معادلة التاجر/ الزبون، المنتِج/ المستهلِك، السيّد/ العبد. كان سجال الكواليس والمجالس الخاصة داخل إطار “مجلس التعاون الخليجي” يتمحور حول مَن يجلب أكثر من الأجانب، شركاتٍ ومستثمرين، وكان العمل دائماً على تحويل دول الخليج إلى منصّات عالية الكفاءة وأسواق للبضائع الأجنبية وممرّات لانتقالها إلى الأسواق الأخرى. جرى العمل منذ ما بعد حرب الخليج الثانية على إبرام اتفاقيات تجارة حرّة ثنائية الطابع بين دول الخليج والولايات المتحدة، تُستكمل حالياً عبر احتضان الشركات الأميركية في الأسواق الخليجية بلا قيد أو شرط.

لم تشهد العلاقات السعودية – العمانية تطوّراً إيجابياً، إلى حين نشوب الخلاف الإماراتي – السعودي (أ ف ب )

يُذكّر قرار ابن سلمان بإلزام الشركات فتح مقارّ إقليمية في السعودية كشرط للعمل في أسواقها، بالخلاف المحتدم حول “البنك الخليجي” و”العملية الخليجية الموحّدة” والتجارة البينية الخليجية و”الهوية الخليجية الموحّدة”، وما رافقه من جدل حول الخارطة المرسومة على البطاقة الإماراتية، والمشتملة منطقة حدودية متنازعاً عليها، وما أعقب ذلك من إجراءات عقابية، بخنق الإمارات برّياً عبر منْع شاحناتها من دخول الأسواق السعودية في أيار 2009. في إرث الذرائع السعودية ما يَصلح لاستحضار تجربة منْع الشاحنات اللبنانية من الوصول إلى أسواق السعودية. فقد برّرت الأخيرة تشدّدها مع الإمارات حينذاك بتهريب مخدّرات عبر الشاحنات إلى المملكة، حسبما أعلن محمد خليفة المهيري، المدير العام للجمارك الإماراتية، مؤكداً أن “الجانب السعودي لم يقدّم أدلّة على تلك المزاعم”. مهما يكن، لا تُقدّم السعودية ذرائعها لإقناع أحد بقرارات ليست من سنخ الموضوع المختلَف عليه، بل لتقول نحن هنا الأقوى.
أمام الحركة المتسارعة للحوادث، لا تتسنّى لكثيرين مواكبة التحوّلات الخاطفة التي تشهدها المنطقة والعالم، في ظلّ احتجاب كثير من الحقائق وراء الغمامة الإعلامية المرافقة لجائحة “كورونا”، على الرغم من أن سؤال الوُجهة الافتراضية للمملكة في المرحلة المقبلة سوف يكون حاضراً، لمعرفة الرهانات المحتملة لدى صانع القرار. من دون شكّ، إن انفضاض التحالف العابر الذي تَشكّل على نحو هزلي في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، أي السعودية والإمارات والبحرين ومصر، بقيادة الكيان الإسرائيلي وبرعاية أميركية، قد وَضع نهاية لمبرّرات وجوده، وعلى الجميع تدبّر أمره، بحسب اشتراطات إدارة جو بايدن. لم يكن “مجلس التعاون الخليجي” بهذا القدر من السوء كما هو عليه اليوم. يرجع ذلك إلى سبب رئيس، أن “حلاّل المشاكل” غائب، وأن من يُصنَّفون بالحكماء قد رحلوا، وبات الاحتكام إلى ما يشبه قواعد سوق الأوراق المالية، ولكن بلا ضوابط للاستقرار السعري. هذا ما كشف عنه السجال المحموم بين الإمارات والسعودية حول آلية الإنتاج النفطي في “أوبك+”، وهو في صميمه خلاف حول الحصص، التي بها يتحدّد العرض والطلب، وتالياً السعر.
سجلّ الخلافات السعودية – الخليجية حافل وقديم. ثمّة خلافات حدودية بين المملكة وبين كلّ دول “مجلس التعاون”. وهي كانت خاضت صراعاً مسلّحاً مع قطر في أواخر أيلول 1992، ودخلت في مواجهات سياسية وأمنية مع الكويت في أكثر من مرّة حول ما يُعرف بـ”المنطقة المحايدة” المتنازَع عليها وذات الصلة بالحقوق النفطية، وبقيت سلطنة عمان (قبل الانفتاح الأخير المعطوف على الأزمة مع الإمارات) في حالة قلق إزاء مخطّطات السعودية لقلْب نظام الحكم بالتواطؤ مع الإمارات. الخلاف الإماراتي – السعودي عميق، بدأ بالملفّ الحدودي حول واحة البريمي التي بقيت عالقة، على الرغم من الرشوة السخيّة التي قدّمها الملك عبد العزيز لحاكم أبو ظبي حينذاك، الشيخ زايد آل نهيان، والد الحاكم الحالي، والتي قُدّرت بنحو 50 مليون دولار. ولعلّ من غرائب سرديات التاريخ السياسي في الخليج، أن تكون بريطانيا هي الطرف المفاوِض مع عبد العزيز نيابة عن حاكم أبو ظبي. الاتفاقية الحدودية التي وُقّعت في خريف 1974، لم تضع نهاية حاسمة للخلاف السعودي – الإماراتي، لينتقل الخلاف من البرّ إلى البحر، بعد احتلال السعودية الشريط الساحلي البرّي الموصل بين قطر والإمارات، ويمتدّ الصراع إلى الحيّز البحري بين البلدين، ما عطّل مشاريع قطرية – إماراتية مشتركة، بينها جسر بحري أريد منه تجاوز الشريط البرّي المحتلّ سعودياً.
الخلاف المكتوم حول آبار نفطية على الحدود السعودية – الإماراتية، تَظهّر، جزئياً، بجهود سعودية واسعة النطاق لمنع شيوخ دبي من الحصول على قرض بقيمة 34 مليار دولار لإنعاش اقتصادها المأزوم. وتجدَّد الخلاف في 2009 حول مقرّ “البنك المركزي الخليجي”، الذي كانت الإمارات تستثمر كلّ نفوذها ليكون على أراضيها، ولكن “الشقيقة الكبرى” تحايلت على المشروع ليكون في الرياض، ومعه كلّ مؤسّسات “مجلس التعاون” بدلاً من توزيعها على بقيّة الدول الأعضاء. نقلت صحيفة “القدس العربي” اللندنية، في 15 أيار 2009، عن مسؤول إماراتي استغرابه من إصرار السعودية على وجود مقرّات معظم مؤسّسات “مجلس التعاون” في الرياض، مقارِناً ذلك بتجربة الاتحاد الأوروبي واختياره بلجيكا، الدولة الأصغر التي تحتلّ مكاناً وسطاً، لتكون مقرّ الاتحاد، وتوزيع المؤسّسات الأخرى، من مثل مقرّ البرلمان الأوروبي، على دول أصغر كلوكسمبورغ، بينما لا توجد أيّ مقارّ في دول عظمى مثل بريطانيا (قبل بريكست) أو إيطاليا. أمّا الإمارات، بحسب قوله، فلا يوجد فيها مقرّ أيّ من العشرين مؤسّسة تابعة لـ”مجلس التعاون”، ما جعلها تشعر بالغبن، خاصة وأنها أوّل دولة تقدّمت بطلب إلى المجلس لاستضافة المقرّ على أراضيها في عام 2004، بينما السعودية تقدّمت بطلبها عام 2008. وفي ترضية ماكرة، عرضت الرياض على أبو ظبي أن يكون محافظ البنك المركزي منها، ما اعتبرته الأخيرة مسألة تافهة، لأن هناك اتفاقاً بين دول “مجلس التعاون” على أن يكون المحافظ بالتناوب بين الدول الأعضاء، مع أن القرارات يجب أن تُتّخذ بالإجماع، وهو ما لم يحدث في شأن مقرّ البنك، الأمر الذي أزعج الإماراتيين وحملهم على عدم المشاركة في مشروع العملة الموحّدة، بعدما كانت سلطنة عمان اتّخذت قراراً مبكراً بعدم الانضمام إلى هذا المشروع، لتغيب كلتا الدولتين عن توقيع “اتفاقية الوحدة النقدية” في الرياض في 7 حزيران 2009.دخول الإمارات في حلبة الخلاف مع السعودية، من البوّابة الاقتصادية (والنفطية على نحو التمويه)، مع تبريد مؤقّت لجبهات الخلاف السعودي – العماني، والسعودي – القطري، والسعودي – الكويتي، يشي بجولة خلافات من نوع آخر، وتالياً تبدّلات في شبكة التحالفات الخليجية. ولْنتذكّر دائماً أن السعودية لم تعتَدْ على العزف المنفرد، ودائماً ما كانت تُراهن على العمل الجبهوي/ المشترك. لم يكن لقاء ابن سلمان بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في شرم الشيخ في 11 حزيران الماضي روتينياً، في ظلّ عمل مصري دؤوب لبناء تحالفات عربية (العراق والأردن)، وتزخيم العلاقة مع كلّ من سوريا وفلسطين ولبنان، والانفتاح الحذر على تركيا وباكستان، وصولاً إلى الصين. اجتراح مصر لمسار مستقلّ في علاقاتها العربية والإقليمية، يُغذّي على الفور مخاوف راكدة في المخيّلة السعودية. وهو ما تَعزّز مع التطوّر المفاجئ بعد معركة “سيف القدس”، حيث شكّل ذوبان الجليد بين القاهرة وواشنطن حافزاً للرياض لتجديد التقارب مع القاهرة، المستهدَفة في مشاريع السعودية الاقتصادية/ السياحية. خسارة مصر، في المنظور السعودي، فادحة، بل كارثية، لأن ذلك يجعلها محوراً قائماً بذاته، فيما تسعى المملكة إلى إطالة عمر “الحقبة السعودية”، وإلى ما لا نهاية.
في كانون الأول 2016، قام الملك سلمان بجولة خليجية بدأها بالإمارات، ثمّ قطر والبحرين، وأخيراً الكويت، حيث انعقدت قمّة “مجلس التعاون الخليجي”، وتجاهَل سلطنة عمان. حينذاك، تُوّجت المفاوضات الإيرانية – الأميركية برعاية عمانية باتفاق نووي برعاية أممية، ما أثار غضب الرياض، التي شعرت بـ”الخديعة”، لإخفاء خبر المداولات عنها. بقي الخلاف على حاله مع السلطنة، حتى وفاة السلطان السابق قابوس بن سعيد. وحتى بعد اعتلاء سلطان آخر، هيثم البوسعيدي (تولّى الحُكم في 11 كانون الثاني 2020)، لم تشهد العلاقات السعودية – العمانية تطوّراً إيجابياً لافتاً، إلى حين نشوب الخلاف الإماراتي – السعودي، حيث بادرت الرياض إلى لعبتها المفضّلة في تثمير التناقضات (باكستان/ الهند، تركيا/ اليونان، وأخيراً الإمارات/ عُمان). المنفذ الحدودي بين البلدين، والمُغلَق بقرار سعودي منذ سنوات طويلة، أصبح فجأة جاهزاً للاستعمال، ومعه زيادة وتيرة التعاون الاقتصادي، و”أهمية التعاون والتعامل بشكل جدّي وفعّال مع الملفّ النووي والصاروخي الإيراني… ومواصلة الجهود لإيجاد حلّ سياسي شامل للأزمة اليمنية… والتعاون لدعم استقرار الأسواق البترولية”، بحسب البيان المشترك بين الجانبين في ختام زيارة قام بها سلطان عمان إلى السعودية في 11 تموز الجاري. بطبيعة الحال، ليس كلّ مضمون البيان المشترك يعبّر عن الموقف العماني، ولاسيما في ما يرتبط بالمبادرات المتعلّقة بوقف الحرب على اليمن، أو حتى صواريخ إيران الباليستية. وفي نهاية المطاف، هو بيان سعودي بامتياز، وقد اعتادت دول الخليج على مثل هذه البيانات الفارغة.
إقليمياً، لم يكن اختياراً عشوائياً توقيت السعودية لانفتاحها على إيران. قرأت الرياض، في وقت مبكر، المسعى الأميركي للعودة إلى الاتفاق النووي، وعلى وجه التحديد منذ أواخر عهد ترامب. وساطات سابقة من أطراف عراقية وباكستانية وحتى عُمانية لم يُكتب لها النجاح، ولم تكن الشروط قد نضجت حينئذ، إلى حين وصول بايدن إلى البيت الأبيض، وتسارُع الخطى نحو إحياء الاتفاق النووي. وفي هذه المرّة، أرادت السعودية الحضور المبكر في الرَكب، للحيلولة دون حصول مفاجآت غير سارّة. وبقي السؤال الدائم: هل التحرّك السعودي محثوث بحسابات واعتبارات محلّية وإقليمية، أم مدفوع بهواجس أميركية المنشأ؟ الأكيد أن لا ملفّات استراتيجية في الحوار السعودي – الإيراني، وأن ما يشغل بال ابن سلمان فقط هو حرب اليمن، التي يريد نهاية مريحة منها، وبما يخرجه من مستنقعها بأقلّ الخسائر، المعنوية بدرجة أولى.
تقليل الخسائر، ومحو آثار الخطايا الفادحة، والتسويات المستعجلة، والرهانات العابرة، تبدو كما لو أنها خصائص العهد “السلماني” في السياسة الخارجية. فما نتخيّله ثابتاً في علاقاتها، قد يكون من بين المتغيّرات السريعة. فالسياسة في السعودية أصبحت، في عهد سلمان، لعبة هواة، والتجربة والخطأ لا يقدّمان دروساً للتعلّم بقدر ما يعيدان إنتاج ما اصطَلح عليه جان بيير دوبوي “الكارثية المستنيرة”، ولكن بأشكال جديدة، كما تبدو في تجدّد التوترات في العلاقات البينية، والتنكّب من ميدان إلى آخر.