رمى المجلس النيابي رميته وباع الناس بطاقة تمويلية من كيسهم. النقاش في الجلسة التشريعية أمس قارب الهذيان. الكل يتسابق في إعلان كفره بالسلطة التي أوصلت البلد إلى الهاوية، متناسين أنهم بغالبيتهم الساحقة كانوا ولا يزالون جزءاً منها. أما من كان خارجها، كالنائب ميشال ضاهر الذي أكثر من عبارات القرف، فقد جعله انفصامه عن الواقع يحذّر من أن يؤدي مبلغ المليون ونصف المليون المتوافر في البطاقة إلى جعل الناس تقبض من دون أن تعمل!
ضاقت الدنيا حتى صار النقاش على عبارة من هنا وأخرى من هناك، كأن ترفع السرية عن مقدمي الطلبات للحصول على البطاقة تلقائياً، أو اشتراط رفع السرية عن كل مقدّم طلب. لكن النقاشات لم تحد عن خط بياني سارت عليه مختلف الكتل. 7 مليارات دولار صرفت من أموال المودعين على دعم لم يصل إلى مستحقيه، لكن الجميع وقف سداً أمام المس بـ556 مليوناً من هذه الأموال. استمات النواب في الدفاع عن الاحتياطي الإلزامي الذي يبلغ 15 مليار دولار، إلا أن أحداً لم يهتم بمصير الـ85 ملياراً الأخرى.
رغم ذلك، أقرت البطاقة التمويلية الإلكترونية بقيمة وسطية تبلغ 93.3 دولاراً شهرياً، لكن بدا واضحاً أن تحولها إلى أمر واقع لن يكون بالأمر اليسير؛ إذ يبقى أمران على الحكومة أن تعالجهما خلال أسبوعين، هي التي فشلت في معالجة كل ما يتعلق بالبطاقة والدعم خلال عام كامل. اللجنة التي تتألف من وزراء المال والاقتصاد والشؤون الاجتماعية، ويفترض أن يترأسها رئيس الحكومة، مكلّفة بوضع معايير المستفيدين من البطاقة، وبتحديد تمويلها بالتعاون مع البنك الدولي، علماً بأن مسألة المستفيدين أخذت كثيراً من النقاش في اللجنة الحكومية المختصة من دون نتيجة. فتيار المستقبل أصرّ على أن يضع البنك الدولي المعايير، بما يقلل من دور الحكومة، لكن النائب حسن فضل الله أعاد التذكير بالنقاش بأن معايير البنك الدولي لا يمكن تطبيقها في هذه الحالة، لأنه يعتبر أن الموظفين والمتقاعدين لا يستحقون الدعم، في حين أن ثلثي الشعب يحتاجون إلى مساعدة. مع ذلك، فإن الأمر يحتاج إلى مزيد من التواصل مع البنك الذي لم يفرج بعد عن أموال قرض الـ246 مليون دولار المخصص لشبكة الأمان الاجتماعي.

والمعايير التي يفترض أن تصدر عن اللجنة المعنية، على ما يُستشف من النقاشات، لن تؤدي إلى الوصول إلى الرقم المستهدف، أي 500 ألف مستفيد. فبعيداً عن إشارة النائب ألان عون إلى أن مفهوم البطاقة التمويلية يهدف إلى التعويض على الناس ارتفاع أسعار السلع التي رفع الدعم عنها كلياً أو جزئياً، إلا أن الجميع كان يتعامل مع البطاقة بوصفها موجهة إلى الفقراء والمحتاجين، متناسين أنها تستهدف بالدرجة أيضاً كل الطبقة الوسطى التي سيفاقم رفع الدعم من انهيار قدرتها الشرائية.
نقاش طويل دار أيضاً في شأن من يملكون أموالاً في المصارف. هؤلاء اعتُبروا غير مستحقين للبطاقة، رغم أن أموالهم محتجزة. وكان الاقتراح المقدم من النائب جبران باسيل، أن يحصل المودع الذي يملك حساباً يفوق العشرة آلاف دولار على مئة دولار نقدية من حسابه. لكن بدت الإشارة إلى مبدأ تضمين القانون إشارة إلى حصول المودع على مبلغ من حسابه مستغربة. فقانون النقد والتسليف يفترض بداهة أن الوديعة ملك صاحبها ويحق له التصرف بها كما يشاء. وبالتالي فإن الإشارة إلى حق المودع في الحصول على 100 دولار من حسابه نقداً، في حال لم يكن مؤهّلاً للحصول على البطاقة التمويلية، يوحي كما لو أن المشرّع يؤكد أن الوديعة لم تعد لصاحبها. فتم الاتفاق على إسقاط هذا الأمر، وترك المهمة للجنة الوزارية، التي تحدد المودع الذي يحق له الحصول على البطاقة ومن لا يحق له ذلك.
بعد ذلك، جرى التركيز على ضرورة الإشارة إلى ترشيد الدعم في متن القانون، من بوابة إلزام الحكومة بذلك. وهو ما أصرّ عليه «المستقبل» و«التيار الوطني الحر». لكن الرئيس نبيه بري الذي تلا رسالة رئيس الحكومة التي يتعهد فيها بترشيد الدعم، عاد ووافق على ضم هذه الإشارة إلى الأسباب الموجبة، علماً بأن بري كان بدأ مناقشة البند بالإشارة إلى أن «المجلس النيابي ملزم بمناقشة وإقرار مشروع البطاقة التمويلية، أما كيفية توزيع البطاقة وآلياتها فتبقى على عاتق الحكومة». كما تلا بري الكتاب الذي وصله من رئيس الحكومة، والذي يشير فيه إلى أنه «انطلاقاً من توجّهات الحكومة بملف ترشيد الدعم فور بدء العمل بالبطاقة التمويلية نفيدكم بتعهد الحكومة بتنفيذ برنامج ترشيد الدعم المرفق ربطاً والمسند الى اقرار اللجان النيابية المشتركة بمعدل بطاقة تمويلية بمبلغ قيمته الوسطية 93.3 دولاراً أميركياً وحداً أقصى 126 دولاراً، مع الاشارة الى انه في حال تم تعديل قيمة البطاقة من قبل الهيئة العامة لمجلس النواب، فإن ذلك سينعكس على نسبة الترشيد».
في الهيئة العامة، لم تعدّل قيمة البطاقة ولم يتم التطرق إلى الأمر حتى. النقاش طال الكلفة الإجمالية لها والمقدّرة بـ 556 مليون دولار، التي فتح اعتماد استثنائي من أجلها، على أن يسدد من القروض والهبات التي يمكن أن تحصل عليها الحكومة. كذلك كان بري واضحاً في أن مبلغ الـ900 مليون دولار الذي سيحصل عليه لبنان من صندوق النقد في آب، لن يخصص لتمويل البطاقة، بل يفترض أن يوضع في الخزينة ويصرف بموافقة مجلس النواب.
الحرّ الشديد الذي سبّبه تعطّل المكيفات في قصر الأونيسكو في بداية الجلسة، وإن ساهم في أن يشعر النواب ببعض ما يعيشه الناس في يومياتهم، إلا أنه لم يؤثر على توجهات أغلب الكتل، ولا سيما «القوات» و«التيار»، لتحميل الحكومة المستقيلة التي غاب رئيسها عن الجلسة تبعات الأزمة.