الحدث

إكسير «التنسيق الأمني»: كيف نحيا من دونه؟

من وجهة نظر الاحتلال قدّمت الأجهزة الأمنية خدمات جليلة للأمن الإسرائيلي (أ ف ب )

 

الأخبار- يوسف فارس

بعد مقتل الناشط السياسي، نزار بنات، مطلع الشهر الجاري، وما سبق ذلك من فضيحة اللّقاحات منتهية الصلاحية، وأزمات الفساد و الحضور الهامشي لـ«المقاطعة» خلال حرب غزّة، زاد الحديث في الأوساط السياسية والفكرية، المحلية الفلسطينية والدوليّة، وحتى في إسرائيل، عن واقع السلطة الذي لا يشي بمستقبل مستقرّ، فيما ذهب كثيرون إلى طرح فرضيات لسقوط السلطة، والتفكير في مرحلة ما بعد محمود عباس. لكن السلطة، المثقلة بفضائحها وفسادها، تمضي، على ما يبدو، وهي مدركة أن مسألة سقوطها مستبعدة، لأنها شُكّلت في ظروف مغايرة للنّسق الذي تسلكه الكيانات والدول الطبيعيّة. ويرى أسعد أبو شرخ، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر، أن ثمّة مصالح مشتركة من بقاء السلطة، منها ما يتعلّق بشخوص الطبقة السياسية الحاكمة، وأخرى بمصالح الاحتلال الذي يحافظ على بقائها.
الأمر ذاته عبّر عنه ميخائيل ميلشتيان، وهو رئيس قسم الدراسات الفلسطينيّة في معهد «موشيه ديان» والباحث في «معهد هرتسيليا»، الذي لم يُخفِ تخوّفه على مستقبل السلطة خصوصاً في ظلّ فقدانها الشرعية في الشارع. لكن ميلشتيان نبّه إلى أن مصدر التمسّك الفلسطيني بوجود السلطة نابع من مصالح الطبقة المتنفّذة، لافتاً إلى سعي إسرائيل الدائم إلى تحسين الواقع المعيشي في الضفة المحتلة، بهدف توفير حالة من الاحترام الشعبي الفلسطيني للسلطة. وفي تداعيات ضعف الأخيرة أو سقوطها على إسرائيل، رأى الباحث أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ستكون أمام سيناريوات خطيرة، من بينها إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة وموجة عمليات تُحاكي ظاهرة العمليات التي برزت خلال الانتفاضة الثانية، عدا عن تحمّل إسرائيل مسؤولية إدارة حياة ملايين الفلسطينيين في مدن الضفة، وما يترتّب عليه من ضرورة نشر المزيد من القوات، وتوسيع مهامّ الأجهزة الأمنية، وهو ما يعني عبئاً اقتصادياً واستنزافاً عسكرياً وأمنياً.
وبالعودة إلى حديث أبو شرخ، فقد تولّى مهمّة تفصيل عموميّاته، قياديٌ بارز في حركة «فتح»، مقرّب من أوساط اللجنة المركزية، تحدّث إلى «الأخبار» مفضّلاً عدم الكشف عن هويته. اعتبر الرجل أنه على رغم أن السلطة تعيش أسوأ فترات وجودها، على الصعيد الوطني، بعد فشلها في تحقيق أيّ اختراق على صعيد الحل السياسي، وعلى صعيد إدارة أوضاع الناس ومصالحهم، إلّا أن التمرد على هذا الواقع وتغييره ليس مطروحاً داخل السلطة ولا داخل حركة «فتح»، ليس لأنه لا توجد شخصيات مبادرة إلى ذلك فحسب، بل لأن الطبقة السياسية الحاكمة تشعر أنها تعيش وضعاً مثالياً لا يمكن التضحية به. وتابع موضحاً أن «منطلقات تقييم الواقع لا ترتبط بما تنجزه السلطة وطنياً ولا على صعيد التنمية، إنما تنطلق من تقييم شخصي، مرتبط بمصالح طبقة الكومبروادور، التي ترى أنها تستحوذ على واقع استثماري، مرتبط ارتباطاً وجودياً بوجود الاحتلال، وبالطريقة التي يدير بها أبو مازن وحاشيته السلطة. لذا، ومهما ارتفع مستوى السّخط الشعبي، لن تعيش السلطة حالة حقيقية من التقييم الذاتي تفضي إلى إصلاح أو هدم للبنى القائمة وإعادة بنائها».

وترتكز معضلات التغيير على عدّة عوامل، بعضها ذاتي، مرتبط بأسرة عباس التي لا تشبه بالمرّة عائلة الراحل ياسر عرفات، حيث يستحوذ أبناء أبو مازن على قدر هائل من الاستثمارات في شركات الاتصالات والمقاولات والتجارة والإسكان، المرتبطة بشكل بنيوني بشركات إسرائيلية تعمل بقرار سيادي في المؤسسة الأمنية. كما أن عباس، الذي انقلب على النهج السياسي «العرفاتي» في معظم تفاصيله، انتقى أن يسير على خُطى أبو عمار في جزئية واحدة، هي إضعاف كلّ الخصوم والمناوئين عبر الاحتواء أو التهميش، حيث لن تجد الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، مهما ضاقت ذرعاً بواقع السلطة، بديلاً فلسطينياً من الشخصيات «الفتحاوية» التي أعاد عباس تدجينها على طريقته. لذا، يلاحَظ أن منطلقات «أبو مازن» في تقريب الشخصيات الحكومية والحزبية من مراكز صنع القرار في السلطة والمنظّمة، أو إبعادها، تتمثّل من جهة في مدى قبول تلك الشخصيات إسرائيلياً أولاً، ودولياً ثانياً، إلى جانب مدى استعداد هؤلاء للحفاظ على إرث أبنائه واستثمارات عائلته.
ويخضع الواقع الداخلي للسلطة لتقييم دائم من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. فمن وجهة نظر الاحتلال، قدّمت الأجهزة الأمنية خدمات جليلة للأمن الإسرائيلي، لم تنحصر في تفكيك «كتائب شهداء الأقصى»، وتفريغ عناصرها في الأجهزة الأمنية فحسب، إنّما تجاوزته إلى تضخيم الخصومة مع حركة «حماس» وبنيتها الحزبية في الضفة بوصفها عدواً مشتركاً بين إسرائيل و«فتح»، خصوصاً بعد أحداث الاقتتال الداخلي التي أفضت إلى طرد السلطة من غزة عام 2007. إذ عزّز «أبو مازن»، عقب تلك الفترة، فكرة أن أيّ تشكيل عسكري أو بناء تنظيمي لـ«حماس» في الضفة، سيكون هدفه تنفيذ «انقلاب» جديد تستحوذ بموجبه «حماس» على الحكم والمقرّات الأمنية. وعلى رغم أن هذا الطرح خيالي بالنظر إلى الواقع الأمني في الضفة، إلّا أنه وجد آذاناً صاغية. وعليه، فإن حدّة المطالبات الشعبية بإجراء تغيير جوهري في بنية السلطة للخروج من حالتها المترهّلة، ستبقى رهينة واقع ترى فيه الطبقة الحاكمة استثماراً عائلياً لا يَحتمل التفريط به، وترى فيه إسرائيل غطاءً سياسياً وأمنياً ضعيفاً غير مؤثّر في المشاريع الاستيطانية، ويوفّر خدمات أمنية كبيرة، تسمح بالتهام ما تبقّى من أراضي الضفة، مقابل مكتسبات يضخّمها المنتفعون بها، فيما هي، في الواقع، ليست سوى وهم سيادة، ووهم منفعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى