«مشهد تلك الطائرات العملاقة وهي تُقلع مع أشخاص معلَّقين على جوانبها، ومن ثمّ يتساقطون. لن تشاهدوا مثل هذا الشيء أبداً… ما جرى يمثّل أكبر الهزائم العسكرية في كلّ العصور». الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بعد عشرين عاماً من انطلاق «الحرب على الإرهاب»
في اليوم التالي لهجمات 11 أيلول 2001، خرج الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، ليشدّ عصب أمّة منهارة من هَول ما أصابها: «ستستغرق هذه المعركة وقتاً وتصميماً. لكن لا يخطئنّ أحد: سننتصر». على مدى العقدَين التاليين، كان السعي إلى تحقيق نصرٍ في «الحرب على الإرهاب» مركز السياسة الخارجية للولايات المتحدة، التي غزت، تحت هذا العنوان، دولتَين وشنّت حروباً هجينة في دول أخرى، ووسط صعود الجماعات الجهادية وسقوطها وصعودها من جديد. لكنّ أحداً لم يجب على السؤال الرئيس: ماذا يعني الانتصار في هكذا حرب؟ بالاستناد إلى آلاف الوثائق التي أميط اللثام عن جزء منها في أعقاب اغتيال أسامة بن لادن، عام 2011، تكشف نيللي لحود، في تقرير موسَّع نُشر في مجلة «فورين أفيرز»، أن الطرف الآخر طرح السؤال نفسه. كان الهدف وراء هجمات الحادي عشر من أيلول، على حدّ تعبير بن لادن، «تدمير أسطورة المناعة الأميركية التي لا تُقهر». «بكل المقاييس، شكّلت الحرب على الإرهاب أكبر مشروع لفترة الهيمنة الأميركية التي بلغت أجلها»، وفق بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي في عهد باراك أوباما. ولكن «مكافحة الإرهاب» استقرّت على ما يسمّيه دانيال بيمان، في المجلّة نفسها، «عقيدة جيّدة بما يكفي»، تهدف إلى «إدارة التهديد الإرهابي، بدلاً من القضاء عليه».

معضلة الباب الدوّار
في اليوم الـسادس والعشرين من آب الماضي، هزَّت انفجارات عنيفة محيط مطار كابول، موديةً بحياة 13 جندياً أميركياً هم حصيلة الخروج «المتعجّل» من أفغانستان. أعادت هذه الحادثة إلى الواجهة، السؤال القديم/ الجديد: ما هي الحصيلة النهائية لنُسق «الحرب على الإرهاب»، الذي وضع له بوش هدفاً يومَ الغزو: ملاحقة تنظيم «القاعدة» حتّى أبواب جهنّم. وفي ما يمثّل استنساخاً للحظة غابرة، تعهّد الرئيس جو بايدن بتعقُّب تنظيم «داعش – ولاية خراسان» حتّى القضاء عليه. في مقياس تقييم «نجاح المهمّة»، تبرز مفارقة احتمال عودة التنظيمات الجهادية بعد 20 عاماً من انطلاق «الحرب العالمية على الإرهاب». نظريّاً، انتهت هذه الحرب، يومَ أماط وزير الدفاع الأميركي آنذاك، جيمس ماتيس، اللثام عن «استراتيجية الدفاع الوطني» (2018)، والتي حدَّدت الصين وروسيا، باعتبارهما تمثّلان التهديد المتعاظم للأمن القومي الأميركي. ولكن عملياً، كانت النهاية قبل ذلك بقليل؛ عندما تحوّلت وسائل الإعلام الأميركية الكبرى إلى تعقُّب دونالد ترامب، وتلهّت بعلاقته «المشبوهة» بالروس، وغيرها من الفضائح التي شكّلت لَبِنة العهد السابق. وهو ما جلّاه غياب الاهتمام بـ«الهجوم الإرهابي» الأوّل على الأراضي الأميركية، منذ 11 أيلول، على يد ضابط سلاح الجوّ السعودي، محمد الشمراني، والذي قتل فيه ثلاثة جنود أميركيين في قاعدة بينساكولا الجوية في فلوريدا. هذا الشعور بـ«انحسار العنف الجهادي»، وفق ما جاء في مقالة لدانيال بنجامين وستيفن سيمون في «فورين أفيرز»، انتقل إلى إدارة جو بايدن، التي حوّلت انتباهها، بدايةً، إلى الإرهاب الداخلي بعد واقعة «الكابيتول» الشهيرة.

انتصار بن لادن
ظلّ نسق «الحرب على الإرهاب» يعيد إنتاج ذاته عاماً تلوَ آخر، ولكنّ البعض يعتقد بأن اغتيال بن لادن في أبوت أباد الباكستانية، عام 2011، يُعدّ بمثابة الضربة القاضية لتنظيم «القاعدة».
في اليوم الحادي عشر من أيلول 2001، نفّذ «القاعدة» هجمته الكبرى. بالنسبة إلى أسامة بن لادن وآخرين، تقول لحود، «مثّل الهجوم ما هو أعظم بكثير من مجرّد عمل إرهابي: إطلاق حملة عنف ثوري من شأنها أن تبشّر بعصر جديد. كانت أهداف بن لادن جيوسياسية… تقويض النظام العالمي المعاصر للدول القومية وإعادة إنشاء الأمّة». اعتقد الرجل أن في مقدوره تحقيق هدفه من خلال توجيه ما وصفه بـ«الضربة الحاسمة» التي ستجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها العسكرية من العالم الإسلامي. في السنوات التي تلت اغتيال بن لادن، رفعت الحكومة الأميركية السرية عن بعض الوثائق التي استحوذت عليها من مخبئه في أبوت أباد، لكنّ الجزء الأكبر منها ظلّ قيد الاختصاص الحصري لمجتمع الاستخبارات. وفي تشرين الثاني عام 2017، رفعت «وكالة الاستخبارات المركزية» السرية عن 470 ألف ملفّ رقمي، تتكوّن من مذكّرات بن لادن، ومراسلاته مع شركائه، ورسائل كتبها أفراد من عائلته، وغيرها من الوثائق التي تٌقدِّم صورةً عن «الحرب على الإرهاب» بعيون هدفها الرئيس.
في عام 1986، اقترح بن لادن، للمرّة الأولى، أن يضرب الجهاديون في الداخل الأميركي لوضع حدٍّ لمعاناة الفلسطينيين. كان اهتمامه بفلسطين حقيقياً، وفق الكاتبة التي اطلعت على جزء وافر من الوثائق، وكثيراً ما ذكّر رفاقه بأن معاناتهم كانت «سبب بدء جهادنا». في «إعلان الجهاد»، لعام 1996، كتب بن لادن: «إخواني المسلمين في العالم، إخوانكم في أرض الحرَمين وفلسطين يدعونكم إلى المساعدة ويطلبون منكم المشاركة في القتال ضدّ العدوّ، عدوّكم: الإسرائيليون والأميركيون». أمِل بن لادن في أن تشكّل هذه المعركة الجماعيّة خطوة أولى على طريق إحياء الأمّة. واتضح سريعاً استعداده لدعم أقواله بالأفعال. فنفّذ «القاعدة»، عام 1998، تفجيرات متزامنة استهدفت سفارتَي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، وأسفرت عن مقتل 224 شخصاً. وتبع العملية هذه، بعد سنتين، استهداف المدمرّة الأميركية «كول»، بينما كانت تتزوّد بالوقود في ميناء عدن، وهو ما أسفر عن مقتل 17 من أفراد البحرية الأميركية. بعد ذلك، أبلغ بن لادن حشداً من مؤيديه بأن الهجمات تمثّل «نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ صعود الأمّة». وبحسب أوراق أبوت أباد، قرّر، بعد وقت قصير من الهجوم على المدمّرة «كول»، مهاجمة الأراضي الأميركية. وراء هجمات الحادي عشر من أيلول هدف رئيس: «كسر الخوف من هذا الإله الزائف وتدمير أسطورة المناعة الأميركية». لم يمض أسبوعان على الحادثة، حتى أصدر بن لادن بياناً مقتضباً على شكل إنذار للولايات المتحدة: «لديّ بضع كلمات فقط لأميركا ولشعبها. أقسم بالله العظيم الذي رفع السماوات دون جهد، أن لا أميركا ولا أيّ شخص هناك سينعم بالأمان حتى يصبح الأمان حقيقة لنا نحن في فلسطين، وقبل أن تغادر كل جيوش الكفّار أرض محمد».
لم تروّض هجمات 11 أيلول «الوحش» الأميركي، كما كان مؤمّلاً، لكنّ الحرب المسمومة على الإرهاب ظلّت تلاحق الولايات المتحدة كطيفٍ يأبى الفكاك، أغرقها في وحلٍ لم تعرف كيفية الخروج منه إلّا هرباً على متن طائرات عملاقة عُلِّق على جوانبها مَن أرادوا اللوذ بجلدهم من عودةٍ «طالبان» إلى كرسيّ الحكم ذاته الذي طُردت منه قبل 20 عاماً، حين آوت بن لادن ومجموعته. مع هذا، يواصل جو بايدن الادّعاء بأن الحرب حقّقت هدفها بـ«دحر الإرهاب»، بدليل أن البلد ظلّ آمناً من هجمات مشابهة لتلك التي وقعت قبل عقدين. لم تتمكّن أميركا من القضاء على أيّ من التنظيمات التي تصنّفها إرهابية. وإن كانت قد حقَّقت بعض النجاحات التكتيكية في هذا المضمار، إلّا أن حربها لم تكن سوى مراكمة لفشلٍ باتت تختصره «أفغانستان الجديدة».