تكاد الإشارات الدّولية، وآخرها الواردة من واشنطن، تُجمع على التّأكيد أنّ مطار كابول ستتولّى قطر، بالتعاون مع تركيا، تشغيله في الفترة المقبلة. وبعدما كانت أنقرة تتوقّع أن تكون هي المشغّل الوحيد للمطار وفقاً لاتفاق بروكسل في 14 حزيران الماضي بين الرئيسَين التركي رجب طيب إردوغان، والأميركي جو بايدن، جاءت التطوّرات المتسارعة في أفغانستان لتضع تلك الخطط في مهبّ الريح، خصوصاً إثر قرار تركيا سحب جميع قوّاتها من هناك بفعل رفض حركة «طالبان» بقاء أيّ قوات أجنبية على الأراضي الأفغانية. لكن المفاجأة جاءت من الحركة نفسها، التي اقترحت على قطر، كما تركيا، تشغيل المطار فنّياً من دون أيّ تواجدٍ عسكري لهما. وفي حين بادرت الدوحة، على الفور، إلى إرسال فرق استطلاع إلى كابول لهذه الغاية، بدا موقف أنقرة أكثر حذراً، لاسيما في ظلّ ظهور معارضة داخلية لهذا الأمر. مع ذلك، فإن تركيا لا تخفي ارتياحها، على رغم المخاطر الأمنية، لكونها ستقوم بهذه المهمّة ولو بالشراكة مع قطر، بل إنها اقتنعت بشكلٍ من الأشكال بتلك الشراكة، وفق ما أكّده وزير خارجيتها، مولود تشاووش أوغلو، الأمر الذي يستهدف – على ما يبدو – التقليل من حجم أيّ نكسات قد تصيب الجهات التي ستتولّى عملية التشغيل، فلا يكون الضرر – في حال حدوثه – واقعاً على طرفٍ واحدٍ دون الآخرين.
وأيّاً يكن، فلا يمكن تفسير حراك تركيا تجاه أفغانستان بمعزلٍ عن كونها عضواً في «حلف شمال الأطلسي»، بل إنّ هذا المنطلق كان في صلب اتفاق إردوغان – بايدن السّالف الذّكر، فيما تعكس تصريحات مسؤولين في دولٍ «أطلسيّة» رغبة الحلف في أن تنوب تركيا عنه. وفي هذا الإطار، تحدّث وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، عن لقاء «طالبان» القطريّين والأتراك لبحث تشغيل المطار، فيما أعلنت النّاطقة باسم البيت الأبيض، جين بساكي، أن بلادها تعمل مع أنقرة والدّوحة على ذلك الأمر. وقالت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، من جهتها، «إن مطار كابول له أهمية قصوى، ونعمل مع تركيا وقطر لتشغيله»، في حين طالب وزراء خارجية الدول السبع تركيا وقطر بتولّي هذه المهمة. وبينما تفيد المعلومات بأن شركة «سادات» (SADAT) التركية ستأخذ الأمير على عاتقها، فإن الجميع ينظر إلى المعطى المذكور على أنه مؤشّر إلى تشغيل أحادي تركي في الأساس للمطار، على اعتبار أن قطر جزء من تحالفٍ وثيق مع دولة إقليمية و«أطلسية» قويّة مثل تركيا. بالنتيجة، يبدو أن أنقرة ستكون مجرّد واجهةٍ لإبقاء يد «الناتو» في أفغانستان، وعينه التي تراقب الداخل إلى كابول والخارج منها، بما يشمل حركة قادة «طالبان» الخارجية، لكن المسألة تتجاوز حدود ما تَقدّم، وهنا يمكن إيراد الآتي:
1- إن تشغيل مطار كابول هو هدف تركي أساسي، باعتبار أن إردوغان وعد بايدن بذلك. ومع أن مثل هذه الإمكانية كادت في لحظة ما تتبخّر، لكن «طالبان» عادت ولاقت الاستعداد التركي لتشغيل المطار بإيجابية. وعلى رغم الاعتراضات التركية الداخلية، فإن إردوغان يرى في تولّي هذه المهمة، ولو من دون أنيابٍ عسكرية، أكثر من ضرورةٍ لحفظ ماء الوجه، حتّى لا يَظهر وكأنّه فشل في خطّته، وهو ما من شأنه إلحاق ضررٍ بصورته أمام الرأي العام التركي. ويزداد هذا الإصرار لدى إردوغان مع إظهار استطلاعات الرأي تراجعاً قياسياً في شعبية «حزب العدالة والتنمية»، هو الأكبر منذ وصوله إلى السلطة عام 2002. ففي استطلاعٍ أجرته شركة إبراهيم أوصلو، يتبيّن أن الحزب سينال 33 في المئة فقط من الأصوات، فيما شريكه، «حزب الحركة القومية»، سينال من 9 إلى 10 في المئة، أي بمجموعٍ يقارب 44 في المئة فقط، بينما تعطي شركات أخرى أصواتاً أقلّ لـ«العدالة والتنمية» وشريكه.

2- إن قبول تركيا تشغيل المطار من دون حماية عسكرية تركية يعكس حاجة إردوغان القوية إلى الرضى الأميركي، الذي يعمل على نيله بكلّ السبل، لتخفيف الضغوط الأميركية عن أنقرة.
3- تتخوّف تركيا من موجة هجرة أفغانية واسعة إليها عبر إيران، وتتوقّع في حال عجزها عن منع ذلك أن يصبح الأفغان كتلةً كبيرة ثانية بعد الكتلة السورية. لذا، فهي تأمل أن تكون على صلة مباشرة بـ«طالبان» لبحث هذا الموضوع، علماً أن المعارضة تتّهم إردوغان بتحويل تركيا إلى مستودع للمهاجرين، وباختلاق أزمة لجوء أفغاني لابتزاز أوروبا والحصول على المزيد من الأموال.
4- إن تواجد تركيا في مطار كابول، ولو بالشراكة مع قطر، يفتح الباب أمام إيجاد رابط تواصل مع حركة «طالبان»، يمكن أن يتوسّع ليشمل لاحقاً موضوعات أخرى، وهو ما يستهدف عدّة أغراض أبرزها ما يلي:
أوّلاً، أن يكون لتركيا موطئ قدمٍ في أفغانستان، تنطلق منه في لعبة رسم التوازنات الإقليمية والدولية الجديدة في هذا البلد نفسه، خصوصاً أن «طالبان» أعلنت أن الصين ستكون الشريك الأهمّ لها في المرحلة المقبلة، وهو ما يزعج الولايات المتحدة، فتأتي تركيا لتقوم بدور حصان طروادة «الأطلسي» ما أمكنها ذلك. كما أنها ستكون في موقع الندّ لقوى أخرى محاذية ومعنيّة جدّاً بالوضع هناك، وعلى رأسها روسيا وإيران، فضلاً عن الصين. وستحاول أنقرة أن تستفيد من علاقاتها الجيّدة مع باكستان، ذات الصلات المهمّة مع «طالبان»، لتنفيذ هذه الأجندة، بل إن الكاتب برهان الدين دوران، المقرّب من إردوغان، يعتقد، في صحيفة «صباح»، أن عدم تواجد قوات عسكرية تركية في المطار يجعل الدبلوماسية التركية تتحرّك بمنأى عن الضغوط التي يمكن أن تتعرّض لها في حال وجود قوات تركية هناك.
ثانياً، بدت تركيا، بالنسبة إلى «طالبان»، كما لو أنها الأقرب مذهبياً إليها، قياساً إلى دول أخرى من مثل إيران وروسيا والصين، وهذا ما يفسّر – جزئياً – موافقتها على تولّي الأتراك تشغيل المطار. وانطلاقاً من المعيار نفسه، لعبت أنقرة على الوتر المذهبي، ولو في حدّه الأدنى، لتجذب الحركة تدريجياً إلى معسكرها، بدلاً من أن تقوم الأخيرة بشبْك علاقاتٍ مع دول «غير سنّية» كروسيا وإيران، بل إن السعي التركي هو لاستمالة «طالبان» إلى فئة محدّدة من «المعسكر السنّي»، أي فئة الدول المؤيدة لـ«الإخوان المسلمين»، على حساب دولٍ أخرى كالسعودية والإمارات ومصر. وبذلك، تعتقد تركيا أنها تسجّل هدفاً في مرمى هؤلاء الذين بدأوا الانفتاح عليها، ولكنهم لا يزالون حتى الآن في دائرة المعسكر المعادي. لكن الانطلاق من نزعةٍ مذهبية من جانب تركيا وقطر للتعامل مع الموضوع الأفغاني، يمكن أن يسري على «طالبان» التي ارتضت بدورها التعامل مع فئةٍ دون أخرى من «العالم السنّي»، مع ما قد يستدعيه هذا من تبعات سلبية مستقبلاً على الوضع الأفغاني الداخلي وخطط «طالبان» للتطبيع مع العالم.
ثالثاً، تشير أوساط تركية إلى عاملٍ آخر يدفع تركيا إلى الدخول إلى أفغانستان عبر تشغيل المطار، وهو انتزاع استثمارات واسعة هناك للشركات التركية، والتضييق على مؤسّساتٍ تابعة للداعية فتح الله غولن في منطقة آسيا الوسطى، حيث يُعرف الأخير بنشاطه الواسع التربوي والصّحي، خصوصاً في جمهوريات آسيا الوسطى.
هكذا، تتشابك العوامل الداخلية التركية بالعوامل المذهبية والإقليمية والدولية، فيما ستوضح الأسابيع المقبلة أيّ العوامل سيتقدّم على الأخرى من زاوية الحسابات التركية.