أن يحرِّر معتقلون وسجناء أنفسهم عبر الفرار من السجون والمعتقلات، فهو حدث تكنيكيّ غير استثنائي في كلّ دول العالم، لا تتجاوز تداعياته عادةً حدوده الخاصة به. لكن في الحالة الإسرائيلية، أن يحرِّر الأسرى الفلسطينيون أنفسهم عبر حفْر أنفاق تحت الأرض، في كيان يتباهى بقدراته الاستخبارية وقبضته الأمنية، فهو حدث استثنائي، بتداعيات صعبة على العدو، خاصة إن تكلّلت العملية بالنجاح الكامل. هذا تحديداً ما تتّصف به عملية تحرّر ستة أسرى من معتقل جلبوع أمس والتي تأتي في ظرف ضاغط على المؤسّسة الأمنية في إسرائيل، تتكشّف فيه ثغراتها وإخفاقاتها في مواجهة المقاومة الفلسطينية، ليس على أسوار قطاع غزة حيث نجح المقاومون قبل أيام في استهداف قنّاص متحصّن في عملية خضّت الكيان وكشفت فشله الميداني فقط، بل أيضاً في معتقلاته التي يعتدّ بحصانتها.
حتى ساعة متأخرة أمس، كانت أسئلة العدو على حالها بلا إجابات حاسمة: كيف استطاع ستة أسرى حفر نفق من زنزانتهم إلى خارج أسوار المعتقل من دون أن تلاحظهم المنظومة الأمنية المتحكّمة بالمعتقل وزنزاناته، بشرياً وتكنولوجياً واستخبارياً؟ متى بدأت عملية حفر النفق وأين أخفى الأسرى التراب والرمال؟ هل تلقّوا مساعدة من داخل السجن أو من خارجه؟ هل ثمّة عمليات حفر أخرى؟ وكيف لثلاثة من الأسرى الستّة أن يكونوا معاً في زنزانة واحدة، وهم ممّن حاولوا الفرار في السابق سوياً؟ هذه الأسئلة، المتعلّقة بفعل التحرّر نفسه، ستكون محور تحقيقات مطوّلة وتراشق مسؤوليات، إلا أن أسئلة أخرى متّصلة بالتداعيات والتحدّيات ستحضر بقوة في إسرائيل، وتحديداً في ما يتعلّق بنظرة الإسرائيليين إلى أجهزتهم الأمنية، وقدرتها على التحكّم بزمام الأمور، فضلاً عن نظرة الفلسطينيين، وخصوصاً الأسرى منهم، إلى تلك الأجهزة، على اعتبار أن ما جرى يمكن أن يشجّع الآخرين على عمليات تحرّر مماثلة، وفي ذلك تحدٍّ كبير جدّاً لتل أبيب وأمنها وهيبتها، التي باتت مثقوبة جرّاء الأحداث المتكرّرة في الفترة الأخيرة.
على ذلك، سيكون صاحب القرار الأمني الإسرائيلي أمام تحدٍّ مزدوج: من ناحية، إفهام الفلسطينيين، والأسرى تحديداً، وكذلك الجمهور الإسرائيلي، أن الحادث ناجم عن إخفاقات وليس فشلاً، وهو من الحوادث التي يمكن منعها والتي سيُعمل على معالجة حاسمة لمسبّباتها، بحيث لا يمكن للأسرى تكرارها، سواءً عبر الأنفاق أو غيرها من الأساليب. ومن ناحية ثانية، سيتعيّن على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، على اختلافها، أن تتعاون في ما بينها لإعادة تشديد القبضة على الأسرى، في محاولة منها للحدّ من التداعيات السلبية على أمنها وهيبتها وقدرة ردعها، وترسيخ صورة في الوعي الفلسطيني مفادها: إن استطاع أيّ أسير الفرار من المعتقل، فإنه لا يمكث طويلاً خارجه إلى أن يُعاد القبض عليه. وكما هي العادة المتّبعة، أو الوظيفة الواجبة على السلطة الفلسطينية، يُتوقّع أن تكون الأخيرة جزءاً لا يتجزّأ، بل متقدّمة في البحث والتحرّي وتقديم المعلومات الاستخبارية في شأن ملاذ الأسرى الستّة، خاصة أن معتقل جلبوع قريب جدّاً من أراضي السلطة، ويبعد مسافة 13 كيلومتراً فقط عن مدينة جنين، التي تُعدّ واحداً من الأماكن التي يرجّح العدو أن يكون الأسرى قد وصلوا إليها.

في دلالات ما جرى، يقف الجمهور الفلسطيني مأخوذاً بتنوّع انتماءات الأسرى ما بين حركتَي «فتح» و«الجهاد الإسلامي»، ليستعيد زمناً جميلاً في اتّحاد الفصائل على مقاومة الاحتلال، في زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات، وليتلمّس أيضاً ومجدّداً أن العمل المقاوم لا ينحصر بفصيل واحد دون فصائل أخرى أُريدَ لها أن تكون خارج العمل المقاوم، وتحديداً المقاومة المسلّحة – الندّية للعدو، خاصة أن لكلّ واحد من الستّة تاريخاً نضالياً طويلاً ضدّ الاحتلال. أمّا على المقلب الإسرائيلي، فعلى رغم أن التعليقات العبرية التي تُبرز الفشل وتقاذف المسؤوليات تكون محدودة في تغطية حدث كهذا، إلا أنها سرعان ما تعود لتبرز لاحقاً بعد الانتهاء من التغطية الخبرية. ومع ذلك، فإن عملية جلبوع فرضت نفسها مباشرة على وسائل الإعلام، ودفعتها إلى إطلاق انتقادات حادّة للمنظومة. إذ اعتبرت «القناة 12» العبرية ما حصل «فشلاً مدوّياً لكلّ الوزارات والأجهزة الأمنية، من وزارة الأمن الداخلي إلى شعبة الاستخبارات العسكرية إلى المؤسسة الأمنية وكذلك العسكرية، لأن حفر النفق استمرّ أكثر من ثمانية أشهر من دون أن يكتشف أحد شيئاً»، علماً أن اكتشاف عملية التحرّر لم يحدث من داخل المعتقل نفسه، ولا من الحراسة القائمة على أسواره، بل من خلال سلسلة ملاحظات وإفادات لشهود عيان وردت من خارجه. وأشارت صحيفة «هآرتس»، من جهتها، إلى أن التحقيق الأوّلي، كما ورد عن «الشاباك»، كشف أن الأسرى نسّقوا عملية فرارهم مع متعاونين في الخارج باستخدام هاتف محمول مهرّب، وكانت لديهم سيارة تنتظرهم لحظة فرارهم، فيما ذكرت مصادر في مصلحة السجون الإسرائيلية أن التحقيق جارٍ في العملية، وهو يطال «الفجوات الزمنية في تسلسل الأحداث»، عادّةً الخرق «فشلاً أمنياً واستخبارياً كبيراً». وكان رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، وصف الحادث بـ«الخطير جداً»، داعياً إلى «جهود مشتركة من قِبَل كلّ الأجهزة الأمنية»، بينما بادر وزير الأمن، بني غانتس، إلى عقْد سلسلة اجتماعات لتقويم الوضع مع رئيس «الشاباك»، نداف أرغمان، ورئيس «شعبة العمليات» في الجيش، عوديد باسيوك، وقائد «المنطقة الوسطى» يهودا فوكس. ووفقاً لبيان صادر عن مكتب غانتس، فقد «تمّ إطلاع الأخير على كلّ الجهود الاستخباراتية والعملياتية للعثور على الأسرى، فيما أمر هو بتعزيز القوات عند المعابر الحدودية والمعابر القائمة في منطقة التماس».