لم تختلف وظيفة إيديولوجية «الحرب على الإرهاب» عن تلك التي أدّتها إيديولوجيات سبقتها، وروّجت لها المراكز الإمبريالية في القرنَين الماضيَين لتسويغ توسُّعها في أنحاء المعمورة، وسيطرتها عليها. فَمِن «المهمّة الحضارية» و«عبء الرجل الأبيض» في بدايات القرن التاسع عشر، إلى «مكافحة الشيوعية» في النصف الثاني من القرن العشرين، غلّفت هذه المراكز مشاريعها للغزو والاحتلال والنهب بسرديات تزخر بنفس المفردات الرنّانة عن الحرية والاستبداد، والحضارة والبربرية، والتسامح والكراهية، والانفتاح والانغلاق والتعصّب، وغيرها من المفاهيم الجوفاء. وعلى مدى قرنَين، تمّ قتل وإذلال البشر «الفعليين» باسم حقوق إنسان «مجرّد». المجموعة التي صاغت إيديولوجية «الحرب على الإرهاب»، في مطلع الألفية الثانية، وجلُّها من المحافظين الجدد، كانت قد أنشأت مركزاً، في 3 حزيران 1997، سمّته «المشروع من أجل قرنٍ أميركي جديد»، استناداً إلى مقال لروبرت كاغان وويليام كريستول، نُشر في «فورين أفيرز» بعنوان «نحو سياسة خارجية نيو ريغانية»، في صيف عام 1996، يوجّه نقداً لاذعاً إلى مقاربات إدارة بيل كلينتون في الشؤون الخارجية، ويدعو إلى اعتماد توجّهات أكثر هجومية تُعزّز الموقع القيادي للولايات المتحدة على الصعيد الدولي وهيمنتها «الحميدة». وقّع على البيان التأسيسي للمركز، 25 شخصاً، بينهم 10 احتلّوا، بعد ثلاث سنوات، مناصب رئيسة في إدارة جورج بوش الابن الأولى، كدونالد رامسفيلد وديك تشيني وبول وولفوفيتز. الفكرة المركزية التي طرحتها هذه المجموعة هي أن إعادة صياغة الشرق الأوسط انطلاقاً من العراق، تمثّل الشرط الأساسي لترسيخ الهيمنة العالمية لواشنطن. وقعت هجمات 11 أيلول 2001، وتوفّرت «الفرصة التاريخية» لوضع هذا المشروع موضع التنفيذ. بعد مُضيّ 20 عاماً، يستشهد دومنيك مويزي، الخبير الجيوسياسي الفرنسي والمفكّر اليميني الوثيق الصلة بأوساط صناعة القرار والثروة في الغرب الأورو-أميركي، في مقال نُشر على موقع «وورد كرانش» بعنوان «هدية بن لادن غير المتوقّعة للصين وروسيا»، بِقولٍ لكارل ماركس، مقتبس من كتابه المهمّ «برومير الثامن عشر للويس بونابرت»، يعتبر فيه أن «الناس يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه وفقاً لرغباتهم». «الناس»، في نظر مويزي هنا، هم تنظيم «القاعدة» الذي فشل في تحقيق هدفه النهائي بطرد الولايات المتحدة من العالم الإسلامي وإحياء دولة الخلافة، والمستفيدَان الفعليَّان من الهجمات وتداعياتها البعيدة المدى، هما أوّلاً الصين وروسيا. غير أن ما يتغاضى عنه الخبير الفرنسي هو أن هذا القول ينطبق تماماً على ما قام به المحافظون الجدد، وجميع الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ تاريخ وقوع الهجمات. فالشرق الأوسط تتمّ إعادة صياغته بالفعل، ولكن على الضدّ من مخطّطات واشنطن، ومشروع القرن الأميركي الجديد كان «صرحاً من خيال فهوى».

نسيان «درس فيتنام»
استندت الهيمنة الأميركية على الصعيد الدولي إلى ركيزتَين رئيستَين: التفوّق العسكري النوعي على جميع دول المعمورة، وانتشار شبكة قواعد عسكرية (800 قاعدة)، في أنحائها، وشبكة تحالفات واسعة ضمّت عدداً كبيراً من الأنظمة، كان بعضها في بلدان الجنوب تحديداً، مجرّد وكيل محلّي لواشنطن. لم تتردّد الأخيرة، عندما اقتضى الأمر ذلك، من إرسال مستشارين وقوات خاصّة لمساندة هذا الوكيل أو ذاك، لكنّ السيطرة والتحكّم كانا يمارَسان عن بعد. المرّة الأولى التي تعرّض فيها هذا النمط من الهيمنة للاهتزاز الجدّي، كان خلال حرب فيتنام، عندما أَقحمت الولايات المتحدة بعشرات الألوف من جنودها في حرب واحتلال طويلَي الأمد، انتهيا بهزيمة منكرة. أدّت «عقدة فيتنام» الناجمة عن هذه الهزيمة إلى فتح نافذة فرص أمام حركات التحرّر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، سمحت لها بإنجاز سلسلة من الانتصارات، كما حصل في أنغولا وموزمبيق وزيمبابوي ونيكاراغوا وإيران. الدرس المحوري الذي التفت إليه البعض في المؤسسة العسكرية الأميركية آنذاك، هو ضرورة تجنّب التورّط في احتلال عسكري مباشر، والسعي إلى تحقيق الانتصار عن بعد، ما مهّد إلى الاستثمار الضخم في ما سمّي بـ«الثورة في الشؤون العسكرية» التي تفترض إمكانية الانتصار في الحرب دون خوض المعارك مباشرةً اعتماداً على التكنولوجيا المتطوّرة. وجاءت الحرب الأولى ضدّ العراق في عام 1991، بذريعة تحرير الكويت، لتكون ترجمة «خلّاقة» لهذه الثورة. غير أن الغطرسة الإمبراطورية الناتجة عن الانتصار في الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، والقناعة بالطابع «الخارق» للقوّة الأميركية المؤسَّسة على الثقة العمياء بالتفوّق التكنولوجي في الميادين العسكرية والمدنية، وبفرادة النموذج الذي بات أفقاً أبدياً لبقية الإنسانية، هي جميعها عوامل قادت إلى نسيان «الدرس الفيتنامي» المؤلم. لم يخطئ مَن لحظ أن المحافظين الجدد، بعد هجمات أيلول، سعوا إلى أسرلة السياسة الخارجية عبر الدفاع عن مفاهيم من نوع «الحرب على الإرهاب» و«الحرب الاستباقية» والاحتلال الطويل الأمد لبلدان بعينها لمنع «الإرهابيين» من البقاء في السلطة أو العودة إليها. هم فعلوا ذلك أصلاً خدمةً لإسرائيل، وجميعهم من الصهاينة المتطرّفين، كما أظهر العديد من الباحثين والخبراء الذين استفاضوا في تحليل خلفيات ومبرّرات الحرب على العراق في عام 2003، باعتبارها حرباً «اختيارية» وليست حرباً «ضرورية». هذا ما أثبته جون ميرشايمر وستيفن والت في كتابهما المرجعي «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية» الصادر في عام 2008. تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها لإعادة بنائها بإشراف قوات الاحتلال الأميركية، وإسقاط نظام «طالبان» وإعادة «بناء أمّة»، تطلّب، في أحد أطواره، العودة إلى خوض حرب مكافحة تمرّد دامية وباهظة الأكلاف، وهي سياسات أفضت إلى غرق الولايات المتحدة في «وحول» الشرق الأوسط مع مفاعيل طويلة الأمد ما زلنا نشهدها إلى الآن. قوى المقاومة في الإقليم، أنظمة وحركات مقاومة تعمل على إعادة تشكيله بعيداً من هيمنة واشنطن. هي نسيت درس فيتنام، والصعود التدريجي ومن ثمّ المتسارع للصين وروسيا.

زمن جديد غير أميركي
بعض الأصوات الوازنة في النخبة الأميركية، مثل زبيغنيو بريجنسكي وبرينت سكوكروفت، ومن ثم ريتشارد هاس، حذّرت مبكراً من مغبّة الغرق في الشرق الأوسط وتجاهل الديناميات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعتمل في مناطق أخرى من العالم، خاصة في تلك البلدان المؤهّلة لتصبح منافساً من المستوى نفسه للولايات المتحدة. يجزم كثيرون بأن باراك أوباما كان مدركاً لهذه الحقائق عندما قرّر الانسحاب من العراق في أواخر 2011، وألقى خطابه الشهير عن «الاستدارة نحو آسيا» في عام 2012، غير أنه عجز عن اتخاذ القرار بالانسحاب من أفغانستان، على رغم وعده بذلك، بل وأرسل آلاف الجنود إلى ذلك البلد لمكافحة التمرّد. لم يرغب في أن يُتّهم بالمسؤولية عن انسحاب هو صنو للإقرار بالهزيمة، ومثله فعل دونالد ترامب. جو بايدن اتّخذ هذا القرار، لكنّ المشاهد التي رآها أعداء الولايات المتحدة وأصدقاؤها في مطار كابول ستحفر عميقاً في ذاكرتهم. انتهت «الحرب على الإرهاب»، وتجد واشنطن نفسها اليوم في مقابل منافسَين استراتيجيَّين يتمتّع أحدهما، وهو الصين، بقدرات اقتصادية وتكنولوجية وبموقع مركزي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وبشراكة استراتيجية وعسكرية متعاظمة مع روسيا، تضعه في مصاف لا يمكن مقارنته بذلك الذي كان عليه الاتحاد السوفياتي ومعسكره. التنافس يحتدم في ميدان التكنولوجيا، حيث للصين دور ريادي في تطويرها، وفي داخل المنظومة الرأسمالية العالمية، وهي أحد أقطابها، إضافة إلى الميادين العسكرية والاستراتيجية. هل ستنجح استراتيجية الاحتواء، المستلهمة من زمن مضى وضدّ خصم لا يمتلك نفس المزايا والمقوّمات، وكذلك سباق التسلّح في كبح صعود الصين؟ ليس من الاستعجال الإجابة على هذا السؤال بالنفي، إذا أُخذت في الاعتبار عوامل كالشرخ الداخلي العميق الاجتماعي – السياسي في أميركا، واهتزاز ثقة حلفائها بها وتردّدهم في الانقياد الأعمى خلفها في «حرب صليبية» ضدّ الصين وربّما روسيا. وقد يكون إصرار واشنطن على المضيّ في مثل هذه المخطّطات، بدلاً من محاولة التوصّل إلى تفاهمات وترتيبات مع بكين، خطأً استراتيجياً جديداً يعمّق من حدّة تراجعها، كما أدّت المفاعيل الطويلة الأمد لـ«الحرب على الإرهاب» إلى تبدّد أوهام القرن الأميركي الجديد.