هؤلاء الفلسطينيون الذين تليق بهم الحياة. الذين هزوا، بل وكسروا، الأدمغة الفولاذية في «اسرائيل». تلك العملية الأسطورية في سجن جلبوع. لم يحفروا في الأرض فحسب. حفروا في ذاكرة النار…

يوماً ما، ليس بالبعيد، لن تبقى «اسرائيل» لا الوديعة الالهية، ولا الوديعة الأميركية، في الشرق الأوسط…

هذه ليست قراءة في الغيب، ولا هي مراقصة الخيال، حتى وان قال التاريخ أن الأمبراطوريات العظمى تذهب، عادة، أدراج الرياح.

ذهول في الشاشات الأميركية، بعد تلك الآراء التي بدأت تظهر في الدوريات الكبرى، أو في معاهد البحث، وتعتبر أن «اسرائيل» أمام اختبارات وجودية معقدة. حتى أن الباحثين «اليهود» يرون أن الأمن الاستراتيجي «للدولة اليهودية» لم يعد بتكديس القاذفات، والدبابات، الأكثر تطوراً في العالم، وانما في  فلسفة التعاطي مع البنية الديموغرافية للدولة.

اذا بقي ايقاع التكاثر لدى الفلسطينين، لا بد أن يحدث اختلال مروع في التوازن الديموغرافي. يضاف الى ذلك، وهنا الهاجس الاستراتيجي، أن الفلسطينين، سواء داخل الخط الأخضر، أم في الضفة والقطاع، ناهيك عن فلسطينيي الدياسبورا، يحتفظون بـ»ذاكرة النار»!

ليس مستغرباً ألاّ يتوقف بعض الباحثين (اليهود) عند الدعوة الى تغيير بنيوي ان في السياسات، أو في الاستراتيجيات. انهم يدعون الى تغيير هيكلي في المسار الفلسفي للدولة. لا مجال للتعاطي مع الفلسطينيين كمخلوقات ما دون المخلوقات البشرية!

الخشية الآن من الافتراق الكارثي بين النظرة الأميركية و»النظرة الاسرائيلية» في صياغة السياسات حيال القوى المناوئة ـ»تل ابيب»، لا سيما ايران التي ثابرت على التهديد بازالة «اسرائيل» عن سطح الأرض.

ما الشيء الذي لم تقدمه الولايات المتحدة «لاسرائيل»؟ أكثر الاسلحة تطوراً في العالم، المعونات المالية السنوية، التسهيلات الائتمانية، فضلاً عن التغطية الديبلوماسية، والتغطية الاعلامية، للحروب التي شنتها، منذ حزيران 1967، وحتى الآن.

أميركا، وتحديداً عبر هنري كيسنجر، هي التي أقنعت أنور السادات بعقد اتفاقية كمب ديفيد مع مناحيم بيغن، ما أحدث زلزالاً في معادلات الصراع في المنطقة، وهي  من أشارت الى الملك حسين بابرام اتفاق وادي عربة. واذ بعثرت العراق، حطمت الديناميكية الاستراتيجية السورية  لتغدو أبواب المنطقة مشرعة أمام «الحاخامات».

ادارة جو بايدن، وبالرغم من التزامها بالمطلق أمن «اسرائيل»، أوحت، أكثر من مرة، بألا مجال للتماهي الميكانيكي بين سياسات واشنطن وسياسات «تل أبيب». الأولوية للأمن الاستراتيجي الأميركي. الشرق الأوسط لم يعد منطقة المستقبل. تغييرات في الرؤية (والرؤيا) منذ أن ظهر التنين، التنين المجنح، في وسط الحلبة…

اذا كانت «اسرائيل» متوجسة من آيات الله، بالمخزون الايديولوجي العاصف، فان العودة الى اتفاق فيينا، واراحة ايران اقتصادياً، لا بد أن يؤدي الى تبريد الكثير من الرؤوس الحامية هناك. الجنوح الى البراغماتية يدخل الايرانيين، أوتوماتيكياً، في شبكة من المصالح التجارية التي هم بأمس الحاجة اليها.

استطراداً التخلي عن «دومينو الحرائق»، بوجهيه الجيوسياسي والجيوستراتيجي، بعدما بدأ الايرانيون يلاحظون مدى تأثير الضائقة الاقتصادية، وعلى نحو دراماتيكي، في المنظومة الأمنية، وحيث الصدمة في مستوى التصدي للعمليات  التي نفذها «الموساد» ضد أهداف ايرانية فائقة الحساسية عسكرياً، واقتصادياً…

من هنا قول «هاآرتس»، ونقلاً ان  «اسرائيل» لم تعد تستطيع التأثير في الاستراتيجيات الأميركية حيال المنطق لامجال أمام حكومة نفتالي بينيت (التكديس الكرتوني للوزراء) وزحزحة الخيارات الديبلوماسية لجو بايدن. لكن اللعب لا يزال على قدم وساق في شقوق الجدران.

الأميركيون يعتبرون أن القوة التي لا تقهر قهرت. حدث هذا في لبنان، وفي غزة، وفي سجن جلبوع. نصيحتهم الى الجنرال بني غانتس الذي زارهم أخيراً: اياكم والمغامرة. انها قاتلة…