باتَ مؤكداً أن صورة الحكومة التي سيتوسّطها رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي ومعهما رئيس المجلس النيابي نبيه برّي تشكّل في التوازنات التي رسَت عليها أخيراً، انتصاراً لصالح عون والتيار الوطني الحرّ في لعبة الأحجام. أما في السياسة العامة فكانت خسارة للاعبين الخارجيين الذين كانوا يُريدون للبلاد مساراً انهيارياً شاملاً، كما للرئيس سعد الحريري الذي خرج من الحكم، وبقيت له حصة وزارية غير وازنة.
كانَ يُمكِن لحكومة كهذه أن تُولَد بعدَ استقالة الرئيس حسان دياب بأيام. كل الظروف كانَت متوافرة. انفجار وانهيار. جرحى. شهداء ودمار و«هجمة» سياسية دولية ومبادرة فرنسية. بقيت الحكومة عصيّة على التأليف. كلمَا وضعَ طرف مفتاحاً للحل في القفل الأمامي، قابله الآخر بمزلاج من الخلف. هكذا، استمر التعطيل ثلاثة عشرة شهراً، قبلَ أن ينجَح ميقاتي في ما فشِل به الرئيس سعد الحريري! السبب ليسَ في الأخير نفسه، إنما في التطورات التي لحِقت بتكليف ميقاتي، وهي التطورات التي فرَضت على الولايات المتحدة الأميركية تغيير مقاربتها للأزمة اللبنانية مخافة تأثير الانهيار على مصالحها. استفادت باريس من هذه اللحظة، مكثفة اتصالاتها في اليومين الماضييْن لأجل تشكيل حكومة «كيف ما كان»، بعدَ أن استماتَت لتحقيق إنجاز خارجي تصرفه في حسابات إيمانويل ماكرون الداخلية، ونجحت أخيراً بـ«قبّة باط» أميركية.
باتَ الكلام اليوم عن الأسباب التي عطّلت تشكيل الحكومة طيلة الأسابيع الماضية خارِج السياق، وحلّ مكانه البحث في الدوافع التي أدت إلى انطلاقتها وهويتها السياسية التي من الصعب حالياً حسمها، كما قدرتها على توظيف عمرها القصير نسبياً – ينتهي مع الانتخابات النيابية في الربيع المقبل – في اجتراح حلول للملفات التي تهمّ اللبنانيين.
وفقاً للمعلومات، سيدخل ميقاتي إلى السرايا رئيساً للحكومة للمرة الأولى في عهد عون نتيجة عوامل داخلية وخارجية تقاطعت على الشكل التالي:
أولاً، تغيير الإدارة الأميركية مقاربتها للأزمة اللبنانية. بعدَ «17 تشرين» كانَ واضحاً بأن الأميركيين أخذوا قراراً بتضييق الخناق والحصار على لبنان، في سياق حربهم على المقاومة. الرأي الغالب في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب كانَ يقول بأن الانهيار سيورّط حزب الله في الداخل ويزيد من الأثقال الملقاة على عاتقه. غيرَ أن إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن باخرة المحروقات الإيرانية خلطَ كل الأوراق، بعدَ تأكد إدارة جو بايدن بأن الحزب قرر كسر الحصار ومواجهته بطرق غير تقليدية. ومن ذلك الحين، كثفت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا حراكها لدى المعنيين وبدأ الضغط لتشكيل حكومة سريعاً بعدَ أن وجدت إدارتها الجديدة بأن الانهيار الشامل سيكون لغير صالح الولايات المتحدة.

ثانياً، الموقف الأميركي المستجدّ دفعَ بباريس إلى التحرّك مجدداً، مع إيران ومن ثم مع الأطراف المحلية. منذ طرحها المبادرة الفرنسية، لم توفّر باريس وسيلة ترهيب أو ترغيب إلا واستخدمتها من أجل تأليف حكومة، أرادت من خلالها القول إنها لا تزال لاعباً قوياً في الإقليم، وقادرة على أن تكون «حلّالة مشاكل» وعرّابة تسويات. الفيتو السعودي واللامبالاة الأميركية لم يسعفاها، إلى أن أتَت ساعة الحسم، التي فرضتها تطورات الإقليم، والاتفاقات الجديدة التي سمحت أميركا للبنان أن يعقدها في إطار التخفيف من أزمته (استجرار الغاز من مصر، والكهرباء من الأردن، عبر سوريا). أول من أمس، تواصل الفرنسيون، تحديداً مدير الاستخبارات الخارجية برنارد إيمييه، مع ميقاتي ناقلاً له قرار الإليزيه بتأليف حكومة سريعاً، وعدم وضع عقبات حتى لو اضطر إلى التنازل عن بعض شروطه.
ثالثاً، أمام هذين التطورين بدأ البحث عن إخراج لا يُحرج ميقاتي أمام طائفته وبيئته. بدأ النقاش من وزارة «الاقتصاد» أمّ العقد. تقول المعلومات إنه جرى الاتفاق على أن تبقى من حصّة السنة كما أراد ميقاتي، على أن تسمية الوزير ستكون من حق رئيس الجمهورية. وفي المقابل، يسميّ ميقاتي واحداً من الاسمين المسيحيين اللذين كانا محط خلاف.
أما بالنسبة للكوتا السياسية لكل من طرفي الصراع، فكانَ من الصعب تحديد حجمها ونوعيتها. إلا أنه يُمكن تلمسّ بأن التشكيلة الجديدة تحتوي على عدد من الأسماء «الملغومة» والتي يصفها فريقا رئيس الجمهورية والحكومة بأنها نقطة تقاطع بينَ عون وميقاتي على قاعدة لا من حصة هذا أو ذاك، بل هي «نصّ نصّ»، وهو ما سيحسمه سير الأمور داخل مجلس الوزراء خلال مواجهة مجموعة من التحديات.
ما لا يحتمل التشكيك هو حصول رئيس الجمهورية على حصّة من 8 وزراء، هم: وزير الخارجية (عبدلله بو حبيب)، وزير العدل (هنري خوري)، وزير الدفاع (العميد المتقاعد موريس سليم)، وزير الطاقة (وليد فياض)، وزير الشؤون الاجتماعية (هيكتور حجار)، وزير الاقتصاد أمين سلام الذي سمّاه النائب جبران باسيل، وزير الصناعة (جورج دباكيان – محسوب على الطاشناق)، ووزير المهجرين (عصام شرف الدين- محسوب على النائب طلال إرسلان).
بينما نالَ ميقاتي بالإضافة إلى الرئاسة، بسّام المولوي (وزيراً للداخلية)، وحصة الحريري فراس الأبيض (وزيراً للصحة) وناصر ياسين (وزيراً للبيئة). أما التدقيق في خلفية بعض الوزراء فيوحي بأن هناك ثلثاً مقنعاً سيظهر لاحقاً، بخاصة أن الأسماء التي قيل بأنه جرى التوافق عليها، تؤكّد مصادر مطلعة بأنها ميّالة لأن تكون من حصة عون. على سبيل المثال تقول المصادر إن «سمّى ميقاتي وليد نصار لوزارة السياحة. إلا أن عارفيه يدركون بأن له ميولاً عونية. أما وزيرة التنمية الإدارية نجلا رياشي عساكر، فيمكن القول إنها أقرب إلى عون من ميقاتي، كذلك وزير الشباب والرياضة جورج كلاس الذي كانَ في المكتب التنظيمي لحركة أمل». يبقى نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي – المحسوب على النائب أسعد حردان – من حصّة الكل)!
وهذا الثلث المقنّع، أشارت المصادر إلى أنه كانَ سبباً في استياء الرئيس فؤاد السنيورة، إذ علمت «الأخبار» أنه التقى ميقاتي قبلَ يوم من زيارته لبعبدا وسجّل اعتراضاً عليه. ولما لمسَ بأن ميقاتي ماضٍ في التأليف ولن يتراجع، حاول التواصل مع رئيس مجلس النواب الذي أكد بأنه «لن يعطّل الحكومة وأن هناك قراراً دولياً بتشكيلها»، بينما تعامل رئيس الحزب الاشتراكي مع هذا الاعتراض بـ«لا مبالاة».
في المحصلة، يتفق الجميع على أن التصويت لاحقاً في مجلس الوزراء هو ما سيكشف الهوية السياسية للأسماء التي يدعي الطرفان بأنها سمّيت بالتوافق. علماً أن غالبية المعنيين الذين اطلعوا على سير المداولات الحكومية يؤكدون بأن حصة عون وفريقه، لا تقلّ (ضمنياً) عن 9 وزراء.