تستعدّ أميركا للتكيُّف مع وقائع جديدة في عام 2021، إذا سارت الأمور على ما يرام، وقُدِّر لجو بايدن أن يتبوّأ منصب الرئيس، ويعود بالولايات المتحدة إلى عهدٍ سبق، بعدما كبّدتها سياسات سلفِه ندوباً سيداويها بحضنٍ جماعي يعيد ترتيب الانقسامات ضمن قواعد وأطر مُشبعة بالصوابية السياسية. قواعد بيّنت، بعد مضيّ كلّ هذا الوقت، عدم نجاعتها، ولا سيّما حين انفجرت – أكثر من مرّة – في وجه مؤسّسة أهملت، على مدى عقود، بل قرون، واقعاً معقّداً: العنصريّة المؤسِّسة والهوياتيّة والحزبيّة ليست أمراضاً جلدية ستختفي حال اختفاء المُسبِّب. والمسبِّب – والحال هذه – ليس دونالد ترامب، وإن كان هذا الأخير أجّج الاستقطاب، وجلّى بوضوح طبقات العفن المتراكمة.
نداء لمّ الشمل والوحدة طغى على خطاب النصر، فتعهّد الرئيس المنتخب بالسعيَ إلى رأب الصدوع لأن «وقت الشفاء» قد حان. توازياً، وضع جو بايدن هدفاً عالي السقف لرئاسته، عنوانه: استعادة الريادة الأميركية المتآكلة، أو بكلماتٍ أخرى، العودة إلى سنوات عصرٍ ولّى. ربّما غفا بايدن قليلاً، وهو يحلم بيومٍ يحمِل فيه أمانة الأمّة على عاتقه، ولم يدرك أن ثمّة متغيّرات كبرى حدثت وباتت أمراً واقعاً، لم يعد ينفع معها العلاج بالصدمة. يُقلق الرئيسَ المقبل واقعُ أن «مصداقية الولايات المتحدة وتأثيرها في العالم تراجعا منذ غادرت أنا والرئيس باراك أوباما السلطة». هذا ما كتبه في مقالته الشهيرة لمجلة «فورين أفيرز» في وقتٍ سابق من العام الجاري، حين وعد بأن «تقود أميركا العالم من جديد». لا يرى بايدن مشكلةً في إصلاح الأعطاب، ما دام يحصر مسؤوليّتها بشخص ترامب. بنى مرشّح الديموقراطيين حملته الانتخابية على عنوان وحيد، هو مواجهة شعبوي متطفّل أفسد «الروح» الأميركية. ربّما يصدّق بايدن أنه فاز لأنه مثّل خيار الأميركيين المتعبين، وليس لأن بعضهم سئم «الاندفاعة والحماسة» الشديدتَين للإدارة الحالية، وقرّر أن يصوّت ضدّها.

القطيعة مع سياسات ترامب في عدّة ملفات ستشكِّل العمود الفقري لسياسة إدارة بايدن. يرغب هذا الأخير في أن ينضمّ مجدّداً إلى اتفاق باريس حول المناخ، وأن يعيد العلاقات مع «منظمة الصحة العالمية»، وأن ينظّم «قمّة للديموقراطيات» علّها تحسّن صورة بلاده وتعيد تأكيد التزامها بالتعدّدية القطبية، وتصلح العلاقات التي خرّبها ترامب مع الحلفاء الغربيين. لا يزال الرئيس الجديد يرى العالم على النحو الذي تركه حين غادر منصبه وليس كما يبدو اليوم، وسيسعى، انطلاقاً من هنا، للعودة إلى الوضع العادي. لكن العالم تغيّر كثيراً، وغيّر ترامب قواعد اللعب في غير مكان. لن تكون سياسة بايدن الخارجية نسخة طبق الأصل لتلك التي سادت حقبة أوباما، لأنه سيدرك أن السياسات السابقة لم تعد تنفع في عالم اليوم، وأنه سيتعامل مع حقيقة أن جرعات الديموقراطية أوشكت على النفاد. بعيداً من الأسلوبين المتناقضين والتكتيكات المختلفة، لا توجد فروقات شاسعة بين ترامب وبايدن في ملفاتٍ رئيسة. أراد الأول، الوافد الجديد على عالم السياسة، «وضع حدٍّ للحروب»، ووعد بسحب قوّات بلاده من سوريا والعراق وأفغانستان. أما الثاني، فعمل سناتوراً لمدّة 36 عاماً، وله حصيلة ثقيلة من أبرز محطّاتها التصويت بـ»نعم» لغزو العراق، قبل أن يندم لاحقاً. لذلك، من المستبعد أن يرسل الديموقراطي قوّات كبيرة إلى أفغانستان، إذ يفضّل، كما رفاقه في الحزب، الاعتماد على مهمّات «مكافحة إرهابٍ» تنفّذها قوات خاصة. وفي وقت تبدو فيه واشنطن وبكين على شفير حرب باردة جديدة، صار بايدن يكرّر أن «على الولايات المتحدة أن تكون صارمة مع الصين»، وبالقدر ذاته مع روسيا. يقدّر بيل بورنس الذي يرأس «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي» أن إدارة هذا التنافس الاستراتيجي ستحدّد «نجاح السياسة الخارجية الأميركية أو فشلها»، ويعتبر أن الإدارة الجديدة ستركّز أكثر على إنشاء شبكة تحالفات في آسيا. لكن الأمر سيبقى معلقاً لمعرفة إن كان بايدن سيعتمد على هوامش المناورة التي شكّلها الرئيس السابق في ملفات الصين والتجارة والنووي الإيراني.