لم تتوقف تداعيات إبعاد القاضي فادي صوّان عن التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، وسط انقسامٍ حيال مصير التحقيق والحقيقة المتوخّاة منه. فهل طُيِّر التحقيق، أم أنّ هناك فرصة لكشف حقيقة ما جرى في مرفأ بيروت إذا أُعيد تصويب مسار القضية؟ المتحدثون عن حياكة مؤامرة لتطيير صوّان لجرأته على القول بأنّه «لن يقف عند حدود أي حصانة»، نسوا أنّ صوّان نفسه لم يستدعِ أحداً من القضاة المسؤولين عن تعويم السفينة روسوس وتخزين 2700 طن من نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت، وآخرين أبقوا على «القنبلة» حيث انفجرت بعد أكثر من 6 سنوات من التخزين. القاضي الذي قال إنه لن يعبأ بالحصانات، تذرّع بوجود أصول خاصة لملاحقة القضاة ليتلطّى وراءها. محكمة التمييز الجزائية التي قررت أول من أمس كفّ يد صوان عن متابعة التحقيق، كانت قد سألته عن سبب عدم استدعائه القضاة الواردة أسماؤهم في ملف انفجار المرفأ، وما إذا كان ذلك من قبيل التعمية على تقصيرهم والمحاباة لكونهم زملاء له، فأجاب بأنّه ليس مختصّاً بملاحقة القضاة. في هذه الحالة، ثبّت بنفسه حصانة لزملائه، في جريمة محالة على المجلس العدلي. يخشى صوّان على امتيازات القضاة ويُغفل، ربما بقصد أو بغير قصد، أنّ الإحالة على المجلس العدلي تُعطّل كل صلاحيات المحاكم الخاصة. فعلى سبيل المثال، إذا ارتكب ضابط جرماً وأُحيل الملف على المجلس العدلي، فإنّ الضابط المشتبه فيه لن يلاحق أمام محكمته الخاصة وهي المحكمة العسكرية، إنما سيلاحق أمام المجلس العدلي. كذلك الأمر بالنسبة إلى فرضية قيام قاضٍ بإدخال متفجرات إلى قصر العدل وتفجيره، ثم أحيل الملف على المجلس العدلي. ففي هذه الحالة، لن يلاحق بصورة مغايرة عن أي مشتبه فيه ثانٍ، بل سيُحاكمه المجلس العدلي.

وفي قضية نيترات الأمونيوم، لم يكن صوان قد كوّن قناعة بشأن ما إذا كانت هذه الشحنة قد أُرسلت الى لبنان لتُحفظ على الأراضي اللبنانية، على أن تُستخدم لاحقاً في مكان آخر. ولم يتبيّن بعد وجود نية جرمية مقصودة وراء تخزين النيترات، أو أن ذلك نتج من «تراكم مجموعة من الصدف». وفي جميع الحالات، ثمّة قضاة قرروا تفريغ الباخرة وتخزين النيترات وإبقاءها في المرفأ، من دون أن يكلّف صوان نفسه عناء الاستماع إلى إفاداتهم.
يوم أول من أمس، طُويت صفحة صوان. ويوم أمس، بلغ الكباش أشدّه. وعلى إيقاع الضغط الإعلامي واعتصام أهالي شهداء الرابع من آب، اقترحت وزيرة العدل ماري كلود نجم اسم القاضي سامر يونس ليُعيَّن محققاً عدلياً في الجريمة، خلفاً للقاضي صوان، المُبعَد بقرار من محكمة التمييز الجزائية، «للارتياب المشروع». غير أنّ مجلس القضاء الأعلى جدّد رفضه للمرة الثانية الموافقة على القاضي يونس الذي سبق أن رُفِض اسمه في آب الماضي. بعد الرفض أمس، أرسلت نجم إلى مجلس القضاء الأعلى اسم القاضي طارق البيطار. في آب الفائت، كانت قد فعلت الأمر نفسه. وحينذاك، نُقل عنه أنّه رفض تولّي التحقيق العدلي. غير أنّ مصادر قضائية أكّدت أنّ البيطار لم يرفض يومها، إنما أبلغ مجلس القضاء الأعلى أن هذه المهمة لا يجب أن يكون عليها قيود وحدودها مفتوحة. وقال حرفياً: «لست متحمّساً، لكن إذا سُلّمت هذا الملف فسأمضي فيه حتى النهاية». غير أنّ مجلس القضاء الأعلى اعتبر ذلك تردداً، فأبلغ وزيرة العدل بأنّ البيطار يرفض أن يكون محققاً عدلياً في جريمة المرفأ.وقال عدد من القضاة إن بعض أعضاء مجلس القضاء الأعلى كانوا يريدون إطاحة البيطار، فعمدوا إلى تشويه موقفه، ليتمّ تعيين القاضي صوّان محققاً عدلياً. في المقابل، أكّدت مصادر قضائية أنّ موقف القاضي البيطار أمام مجلس القضاء أوحى بأنّه لا يُريد المهمة، إذ قال في المجلس إنّه إنْ لم يكن هناك قاضٍ غيره على استعداد لتولي المهمة، فإنّه سيتولّاها. وهذا ما فهمه أعضاء المجلس بأنّه رفض، علماً بأنّ زملاء للقاضي البيطار قد نقلوا عنه أنّه اعتذر لأنه لن يُسمح له بتطبيق العدالة، وهو لن يكتفي بتطبيق القانون إن لم يُحقق العدالة لأهالي الضحايا.
وقد تكرر المشهد نفسه أمس. وبعدما اقترحت وزيرة العدل اسم البيطار، استُدعي إلى مجلس القضاء الأعلى للتشاور معه، فأبلغ الحاضرين استعداده لتولي هذه المهمة، لكنه لا يطلب المركز وأنه إذا كُلِّف فسيمضي حتى النهاية. وفي الخلاصة، وافق مجلس القضاء الأعلى أمس على تعيين البيطار محققاً عدلياً جديداً، على أن يصدر مرسوم تعيينه قريباً.
ابن بلدة عيدمون في عكار، التحق بسلك القضاء بعد تدرّجه في المحاماة، ليكون بين الأوائل في معهد الدروس القضائية. وكان قد ذاع صيته بعد إصداره حكماً بالإعدام على طارق يتيم في قضية مقتل جورج الريف، وحكماً مماثلاً على محمد الأحمر في جريمة قتل روي حاموش. منذ يوم أمس، بات أمام اختبار جديد: فهل سيمضي بالطريقة الاستنسابية نفسها التي عمل بها سلفه القاضي صوان؟ أم أنه سيفتح التحقيق على كل الاحتمالات، ومن دون الوقوف عند الحصانات، سياسية كانت أو قانونية؟