في أرض صغيرة، حفرة كبيرة فيها «غالونات» حديدية، يأكلها الصدأ، معبّأة بالبنزين. محمية بالتراب كي لا تشعل حريقاً، لكنها لا تخرج من مكانها إلا حين يؤمَّن البديل منها. على طريق بيروت دمشق، سيارة تاكسي تستقلّها عائلة وجهتها السفارة الأسترالية في دمشق، يقصدها لبنانيون مع كل المشقات والوقوف في الصف منذ ساعات الليل للحصول على الفيزا. مشهد مماثل للواقفين فجراً في الصف أمام الأفران. أزمة مازوت تهدد المصانع والمستشفيات. «بداعي السفر» إعلانات مبوّبة عن سيارات وشقق وأراض للبيع، وإرجاء حفلات الزفاف، ودعوات للتبرع بالمساعدات الغذائية، وإقفال شركات غربية مكاتبها في بيروت، وبدء العروضات لشقق في باريس، قبل أن تصبح قبرص الوجهة. إنها بيروت عام 1975 وما بعدها في الحرب الأهلية.

(مروان طحطح)

غالونات بنزين بلاستيكية، طالبو الهجرة يقفون أمام السفارات، كما على محطات الوقود، إعلانات البيع صارت أونلاين، لبنان يشحذ المساعدات. إنها بيروت عام 2020، المأساة واحدة منذ 45 عاماً، وإن كانت الحياة حينها أفضل من اليوم في كثير من الأوجه، بعدما أضيف انهيار الليرة، وانقطاع الكهرباء والمياه الملوّثة والنفايات والأموال المسروقة وسنوات الهدر والفساد.
بعد الحربين العالمية الأولى والثانية، درست مراكز الأبحاث والجامعات المتغيّرات الاجتماعية والسلوكيات التي استجدّت أو غابت. كُتب الكثير عن انهيار الطبقات الاجتماعية، ونمو طبقة أثرياء الحرب والسوق السوداء، تغير العادات الغذائية والحياتية، العلاقات الجنسية والعائلية، وسوق العمل المتعثّر، والمقاهي ونوعية ورق السجائر، الأغاني التي عكست بكلماتها السوداوية التي خرجت منها دول من الحرب. في لبنان، توازي السنة الراهنة ما عاشته هذه الدول، في كثافة المتغيّرات التي أطاحت بأسلوب حياة اللبنانيين وأموالهم وتحتاج إلى دراسة كل تفاصيلها.
ماذا تغير من أحوال اللبنانيين منذ ارتفاع سعر الدولار حتى اليوم؟ ببساطة كل شيء. تتغير عادات اللبنانيين الغذائية: وضع الأسعار المرتفعة في جدول علمي، لا يعكس مأساة الذين باتوا غير قادرين على تأمين اللحوم والدجاج والأسماك والألبان والأجبان والفاكهة. يبتعد لبنانيون عن المستورَد، مرغمين بخلاف نظريات بعض السياسيين المنظّرين للبضائع المحلية والمعروفين لدى محالّ الاستيراد الفخمة. تقول مهندسة راتبها كان مرتفعاً نسبياً، إنها شعرت بالعجز حين انتفى حقها في اختيار الجبنة الأوروبية أو اللحوم المبرّدة المستوردة أو الشوكولا. حكاياتنا الشعبية عن أطايب السهرات الشتوية يجب أن تتغير ومعها فخر اللبنانيين بمأكولاتهم، لأن الحمص بطحينة غداً سيصبح كالكافيار سابقاً مع ارتفاع سعر السمسم أو انقطاعه. أغنية فيروز عن جدتها «وزبيب وجوز تخبيلي» لم تعد تماشي ما قرّره حاكم مصرف لبنان، وأسعار الصنوبر واللوز والجوز والمكسّرات والمطيّبات أطاحت بمستلزمات البربارة والميلاد والفطر والأضحى وباقي الأعياد. قديماً كانت صناعة «القورمة» احتيالاً على الفقر لتخزين اللحوم المطبوخة لكل فصول السنة. اليوم تخزن سيدة منه، لأن شراء اللحوم الجيدة والمضمونة قد لا يبقى متاحاً في الأشهر المقبلة لعائلة من أربعة أشخاص يعمل الأب وحده فيها. لم نشهد ذلك في الحرب إلا في مرحلة انخفاض قيمة الليرة في الثمانينيات والمعارك القاسية. ستجد حالياً موظفاً حوّل هواية صيد السمك والعصافير إلى تجارة تكفيه وعائلته لأسبوع إلى جانب راتبه.
الأمن الغذائي لا يقتصر على الخُضر، يقول صاحب مشروع زراعي: «ندفع الدولار للبذور والمبيدات والأدوية والسماد والخيم، لذا أوقفنا زراعة نصف منتجاتنا». مشاتل الزهور تنهار تباعاً، والحبّ مكلف مع باقة ورد بـ70 ألف ليرة. لم تعد النوادي الرياضية من الروتين الذي نما في السنوات الأخيرة. رياضة المشي البديل الأقل كلفة، شاطئ المنارة والواجهة البحرية مثالاً. الرياضة ليست ترفاً، تقول فتاة تمارس الرياضة بانتظام، «فاستبدال النادي بالمشي صيفاً والسباحة، لا يكفي ولا يعوض شتاء، وخصوصاً بعد ارتفاع أسعار الآلات الرياضية المنزلية، وكلفة تصليح العطل فيها تتعدّى المئة دولار». الأمر لا يتعلق فقط بالرياضة وألبستها (هل اشترى أحد حذاءً رياضياً في الأشهر الأخيرة؟) بل «أيضاً بالفيتامينات والبروتينات التي تضاعفت أسعارها، وبالحمية الغذائية التي تخطّتها وصار الرياضي مجبراً على الاكتفاء بطعام المنزل من دون شروط». بحسب طبيب، فإن أسعار الفيتامينات الضرورية لم تعد ملائمة للمرضى، بلغ سعر أحدها مئة ألف ليرة، علماً أن «كورونا» مثلاً يفترض تعزيز جهاز المناعة ولا سيما بالفيتامين c. ويقول طبيب أسنان إن مشاكل صحية ستظهر تباعاً، بدءاً من الأسنان، (عدا ارتفاع جنوني لأسعار المعجون والفرشاة) ومن يحتاج إلى علاجات مختبرية بكلفة مليونَي ليرة على الأقل أرجأ مواعيده، وكذلك بالنسبة إلى الكشف الدوري.
«بسبب كورونا وفّرنا مصاريف الدفن». ليست العبارة كوميديا سوداء، لأن تكاليف المأتم ارتفعت تلقائياً، والبعض خشي من عدم قدرته على سحب أمواله من المصارف لدفع تكلفته. التقنين لحق أيضاً بإضاءة الشموع والزهور، التي ارتفع سعرها، على أضرحة الموتى في ذكراهم.
تبدو النساء أكثر تأثراً في يومياتهن. نساء لا يخضعن لفحوص طبية لارتفاع فاتورة الطبيب. حين يصبح الإجهاض، أو استخدام وسائل منع الحمل النسائية والرجالية (علماً أن كلفة علبة الواقي الذكري ارتفعت خيالياً، ما يساهم في انتشار الأمراض) رغم ارتفاعها، أقل كلفة من الحمل والولادة، والفحوصات السرطانية تتخطّى قدرة من أصبحت بلا عمل، يعني أننا أمام حالة جديدة من المعاناة. في رواية «ابنة الإسبانية» عن الانهيار في فنزويلا، تقول الرَّاوية إنها تستغني عن شراء القهوة والسكر والزيت، لكن كيف يمكن التخلي عن الفوط الصحية التي صارت تباع في السوق السوداء؟ تقول موظفة في لبنان إنها تخصص موازنة من راتبها (لها ولأختها ووالدتها اللواتي لا يعملن) للفوط الصحية المحلية، بعد ارتفاع أسعارها، من ثلاث إلى أربع مرات، فيما ارتفع سعر المستوردة إلى خمسة أضعاف. ينطبق الأمر ذاته على العطور وأدوات الماكياج (إلا إذا كان البديل ماء الورد ودلوك البيض) ومزيل العرق (أحدها طبّي، بلغ سعره 60 ألف ليرة) والشامبو وأصباغ الشعر. لم يعد التجميل متاحاً، كما تقول سيدة أعمال تراجعت أعمالها، لم يعد ممكناً اللجوء إلى البوتوكس إذا وجد، أو الفيلر بعدما باتت الأسعار لا تقل عن 700 ألف ليرة، إذا احتسب الدولار بألفي ليرة فقط. حق النساء في الاهتمام بنظافتهن ومظهرهن ومن أموالهن الخاصة، مهما انتُقدن بسبب المبالغة، ليس جريمة. الجريمة المنظمة هي في تهريب الأموال إلى الخارج وإطباق المصارف على الودائع. فنساء أوروبا حين تقشّفن وعملن بعد الحرب فلأنهن كنّ سواسية مع دولة تنهض من الركام وتتمتّع بقدر من الحياء.في الأزمة الاقتصادية التي مرت بها اليونان قبل سنوات قليلة، أظهرت دراسة ارتفاع نسبة الشباب بين 20 و29 سنة الذين اضطروا إلى العيش في منازل أهلهم إلى 70 في المئة. في لبنان خرجت هذه الفئة من منزل العائلة بفضل سياسة الإسكان إلى منازلها الخاصة أو لجأت إلى استئجار شقق صغيرة. أي منازل يمكن أن يشتريها، ويؤثّثها، عسكريون وموظفون لا تتعدى رواتبهم مليوناً ونصف مليون ليرة، أو ثلاثة ملايين، حين يعرض محل تجاري سعر المنشفة الواحدة بـ350 ألف ليرة، والكرسي الواحد بـ900 ألف ليرة بعد حسم 50 في المئة؟
في فرنسا أُقر أخيراً قانون لإجبار الفرنسيين في المناطق الجبلية على استخدام إطارات خاصة للثلج أو سلاسل معدنية لسلامتهم. عندنا نستعيد تدريجاً مشهد أيام الحرب: سيارات مستعملة مستوردة من مستوى ثان وثالث، سيارات بلا أضواء أو إشارات أو لون، فشركات استيراد السيارات الجديدة لم تنهض فعلياً إلا بعد التسعينيات مع سياسة التقسيط. اليوم ستعود كلمة «روداج» إلى الواجهة، هي التي كانت تُكتب على ورقة تُلصَق على الزجاج الخلفي للسيارة، ليتنبه السائقون بأن السيارة التي أمامهم «فُرِط» محركها للصيانة في كاراج الميكانيك، والسيارة مضطرة للسير ببطء شديد لمدة من الزمن، من أجل «تمرينها» قبل العودة إلى حالتها السابقة. محالّ الحدادة والبويا والدواليب المستعملة ستعود إلى عزها، عندما يتعذر على اللبناني أن يدفع سعر الإطار مئة دولار، من دون احتساب ضرورات تغيير الزيت والمكابح وغيرها. وهذا ينطبق على الآلات الكهربائية، لأن أبسط عطل في غسالة أو براد أو تغيير حنفية، أو شراء مواد تنظيف موثوقة، يوازي أزمة مالية تخنق الراتب.

قبل الإقفال بسبب كورونا هذا الأسبوع، احتشد الفرنسيون أمام المكتبات لشراء الكتب والقصص المصوّرة والمجلات. يقول مدير إحدى الكليات الهندسية إنه «لم يعد ممكناً شراء كتب علمية ولا أدبية. الانهيار يفوق قدرة الجامعات على تعزيز مكتباتها، والطلاب لا يستطيعون تأمين مستلزمات الأبحاث في اختصاصات علمية، كما شراء عدّة الرسم والهندسة وقماش اللوحات وأقلام الرصاص الخاصة». في الحرب ابتدعت مجموعة لبنانية فرنسية فكرة طبع الكتب الفرنسية في لبنان بأسعار ملائمة. اليوم لا تنجح مثل هذه التجربة بسبب سعر الورق وكلفة المطابع. المجلات والصحف الغربية باتت حلماً، والكتاب المستورد لا يقل عن 150 ألف ليرة.
منذ سنة صار السفر حلماً كما مشوار عطلة الأسبوع والسهرات الليلية، شراء الملابس حتى من محالّ التجزئة مكلف، حقائب المسافرين تصل محمّلة بالأدوية والمأكولات والضرورات اليومية… هدايا الأطفال ولعبهم القديمة تباع «أونلاين» بعدما كانت تُحفظ للذكرى.
سنة الانهيار والذل، تحتاج إلى رجل العام لتتويجه، أسماء كثيرة سياسية ومصرفية وأمنية تُتوج بامتياز، لنجاحها الباهر ليس في تحقيق ما عجزت عنه الحرب فحسب، بل لقدرتها أيضاً على تطويع اللبنانيين وإسكاتهم رغم الجوع والفقر، فيما لا نزال في أولى مراحل الانهيار قبل رفع الدعم. البلاد حالياً في حالة «روداج»، لكن ليس لتعود إلى حالتها السابقة، بل في طريقها إلى رفع الدعم تماماً، حينذاك، سنكون في جهنّم الفعلية حيث «البكاء وصريف الأسنان».